الوقت- كشفت أزمة الإغلاق الحكومي الأخيرة في الولايات المتحدة، التي انتهت رسميًا في الثاني عشر من نوفمبر، هشاشة غير مسبوقة في بنية ما تصفه واشنطن بـ"القوة العظمى". فبينما كان البيت الأبيض والكونغرس يخوضان سجالات سياسية عقيمة، كان ملايين الأمريكيين يواجهون أسوأ تهديد لأمنهم الغذائي منذ تأسيس البلاد. الأزمة لم تفضح فقط تناقض الخطاب الأمريكي حول الازدهار، بل كشفت عمق التراجع داخل "الإمبراطورية" التي لطالما قدّمت نفسها للعالم باعتبارها النموذج الديمقراطي القادر على إدارة أزماته بكفاءة.
إغلاق متكرر… لكن هذه المرة مختلفة
الإغلاق الحكومي ليس ظاهرة جديدة على واشنطن. فمنذ عام 1976، شهدت الولايات المتحدة عشرين أزمة تمويل أدت إلى عشرة إغلاقات كاملة أو جزئية. ورغم تكرار المشهد، إلا أنّ الإغلاق الأخير شكّل منعطفًا غير مسبوق. فقد كان أطول وأكثر تأثيرًا، وتسبب في شلل إداري ومالي دفع بمئات آلاف الموظفين إلى البيوت دون رواتب، فيما اضطر آخرون إلى العمل بلا أجر، في مشهد لا يليق بثالث أكبر اقتصاد في العالم.
لكن الأثر الأخطر كان على برامج المساعدات الاجتماعية، وخاصة برنامج SNAP، الذي تعتمد عليه 42 مليون أسرة للحصول على الغذاء. وللمرة الأولى منذ ستين عامًا، توقفت المساعدات تمامًا في اليوم الأول من نوفمبر، تاركة ملايين العائلات أمام جوع قاسٍ لا ذنب لها فيه إلا أنّ ممثليها المنتخبين فشلوا في الاتفاق على ميزانية.
من يتحمل الجوع؟ الشعب أم الرئيس؟
في مقال نشره موقع The Intercept، يصف الكاتب آلن ستيفنز الإغلاق بأنه "أزمة أخلاقية قبل أن يكون أزمة سياسية". فوفقاً له، لم يكن انقطاع المساعدات مجرد نتيجة جانبية، بل أصبح أداة ضغط متعمّدة في يد الرئيس والكونغرس. فبعد موجة استغاثات واسعة وأحكام قضائية تلزم الحكومة باستئناف تقديم الغذاء، عادت إدارة ترامب للطعن في القرار بهدف وقف المساعدات مجددًا—في خطوة اعتبرها كثيرون تهديدًا معلنًا بتجويع الفقراء لانتزاع تنازلات سياسية.
وهكذا وجد ملايين الأمريكيين أنفسهم رهائن في لعبة سياسية قذرة لا يعرفون قواعدها. بينما كان الكونغرس يتلقى رواتبه كاملة دون انقطاع، كانت عائلات من العمال والفقراء والموظفين البسطاء تستيقظ بلا طعام، وتنتظر طوابير بنوك الغذاء التي امتدت من نيويورك إلى تكساس.
أزمة تكشف انعدام العدالة الطبقية
المفارقة أن الولايات المتحدة من أكثر دول العالم إنتاجاً للغذاء، ومع ذلك يعيش فيها ملايين الفقراء على حافة الجوع. وقد أنفقت الحكومة سنوات طويلة في دعم الشركات الكبرى التي تدفع أجورًا منخفضة، ما جعل شرائح واسعة من "العمال الفقراء" تعتمد على برامج مثل SNAP وWIC للبقاء. تشير التقديرات إلى أن شركة Walmart وحدها كلّفت دافعي الضرائب أكثر من 6 مليارات دولار سنويًا بسبب سوء أجور موظفيها.
ومع الإغلاق، لم يعد الفقر مشكلة اقتصادية فحسب، بل تحوّل إلى ورقة مساومة سياسية. الجمهوريون رفضوا تمرير أي تمويل مستقل لبرنامج SNAP، معتبرين المساعدة الغذائية مجرد "حافز للكسل"، وذهب بعضهم إلى إطلاق تصريحات ساخرة تقول إن "فقدان وجبة لن يضر أحدًا". أما الديمقراطيون فحاولوا سنّ ميزانية طارئة للغذاء، لكنها لم تتجاوز حدود الخطوة الرمزية وسقطت في الكونغرس.
حين يصبح الجوع سياسة رسمية
النتيجة كانت واضحة: ملايين الناس وجدوا أنفسهم جائعين في بلد تتعفن فيه أطنان فول الصويا في الصوامع بسبب الخلافات التجارية. وفي حين يتحدث الساسة عن "أمريكا القوية" و"العظمة الوطنية"، يظهر واقع آخر أكثر قسوة: الولايات المتحدة تملك فائضاً غذائياً هائلاً، لكنها لا تملك الإرادة السياسية لإطعام شعبها.
الأزمة وصلت إلى حد تهديد برنامج WIC الخاص بالأطفال والرضع بالانهيار الكامل، لولا استخدام ما تبقى من أموال الطوارئ لإنقاذه. ورغم ذلك، بقي برنامج SNAP معلّقاً، وبقيت العائلات محاصرة بين جدران البيروقراطية والصراع الحزبي.
هذا يعكس تحوّلاً مخيفاً: الجوع لم يعد كارثة إنسانية يجب حلها، بل أصبح وسيلة تفاوض، تُستخدم دون خجل للضغط على الخصوم في واشنطن. وهو ما وصفه ستيفنز بأنه "تجريد متعمّد لكرامة الإنسان".
تشقق صورة القوة العظمى
في الماضي، كانت الولايات المتحدة تتباهى بقدرتها على تجاوز أزماتها. أما اليوم، فإن كل إغلاق حكومي يعمّق الشرخ بين الدولة وشعبها، ويترك ندبة جديدة على صورة الديمقراطية الأمريكية. فكيف لشعب أن يثق بحكومة لا تستطيع حتى ضمان لقمة الخبز للفقراء؟
تداعيات الإغلاق مؤخراً لم تكن مالية فقط، بل اجتماعية ونفسية. ملايين الأسر شعرت بأن الحكومة تخلّت عنها. الجمعيات الخيرية دقّت ناقوس الخطر مرارًا، فيما تحولت الكنائس والمراكز المجتمعية إلى ملاجئ غذائية مؤقتة.
هذه ليست أزمة طارئة؛ بل علامة على منظومة تقترب من الانهيار الداخلي. وقد باتت صورة "أمريكا العظمى" متآكلة أمام العالم، كما هي متآكلة أمام شعبها.
الأمل الأخير… ليس في السياسيين
في ختام الأزمة، كان من الواضح أن الحل لم يأت من السياسيين، بل من المجتمع نفسه. الأمريكيون، رغم انقساماتهم، تبادلوا الطعام، وفتحوا أبوابهم بعضهم لبعض، وتكاتفوا لتعويض العجز الذي تركته حكومتهم. وفي زمن تتراجع فيه الثقة بالمؤسسات، ربما يكون هذا التضامن الشعبي هو ما أبقى البلاد من الانزلاق إلى فوضى اجتماعية أعمق.
الأزمة الأخيرة لم تكن مجرد خلاف على الميزانية، بل كانت اختبارًا لقيمة الإنسان داخل نظام سياسي يضع المصالح الحزبية فوق حياة الناس. وفي بلد يملك ثروة غذائية تكفي لإطعام نصف العالم، يبقى السؤال المؤلم:
كيف يصبح الجوع سلاحاً مشروعاً في يد حكومة تدّعي قيادة العالم الحر؟
