الوقت- في خطوة غير مألوفة في الخطاب الرسمي الإسرائيلي، كشف تقرير صادر عن مركز الدراسات الأمنية التابع لجامعة تل أبيب عن حجم التحديات التي تواجه "إسرائيل" بعد الحرب على غزة، التقرير لا يكتفي بوصف المشهد العسكري أو الميداني، بل يتجاوز ذلك إلى تقييم شامل للنتائج السياسية والاجتماعية والدبلوماسية التي ترتبت على تلك الحرب الطويلة والمعقدة.
يقرّ التقرير بأن الحرب، رغم ما حاولت الحكومة الإسرائيلية إظهاره من إنجازات ميدانية، لم تُحقق الغايات المعلنة، بل خلّفت وراءها واقعاً أكثر صعوبة وتعقيداً في الداخل والخارج على حد سواء.
عزلة دولية غير مسبوقة
من أبرز النقاط التي تناولها التقرير، التأكيد على أن "إسرائيل" تواجه اليوم عزلة دولية متزايدة، فبعد أشهر من العمليات العسكرية في غزة وما رافقها من صور دمار وضحايا مدنيين، تراجعت مكانة "إسرائيل" في العالم بشكل ملحوظ.
التحليلات الواردة في التقرير تشير إلى أن موجة الانتقادات الدولية لم تقتصر على خصوم "إسرائيل" التقليديين، بل شملت حلفاءها الغربيين أيضاً، حيث بدأت تتسع الفجوة بين تل أبيب وعدد من العواصم الأوروبية، هذه الفجوة ظهرت جلية في مواقف بعض الحكومات التي باتت أكثر تحفظاً في دعمها السياسي والعسكري لـ"إسرائيل"، وفي تنامي الدعوات داخل المجتمعات الغربية لمراجعة العلاقات مع الدولة العبرية.
حسب التقرير، فإن "إسرائيل" تجد نفسها اليوم أمام مشهد دبلوماسي جديد، يتّسم ببرود واضح حتى من أطراف كانت تُعتبر صديقة ومتعاطفة تاريخياً معها، هذه العزلة لا تُقاس فقط بمستوى الخطاب الرسمي الدولي، بل أيضاً في الشارع العالمي، حيث تصاعدت موجة التضامن الشعبي مع الفلسطينيين وتزايدت حملات المقاطعة في مجالات اقتصادية وثقافية وأكاديمية.
انقسامات داخلية تتسع
إلى جانب الانعزال الخارجي، يعترف التقرير بوضوح بتنامي الانقسامات الداخلية داخل "إسرائيل" نفسها، فالحرب على غزة، بدل أن توحّد الإسرائيليين حول هدف واحد، عمّقت التصدعات السياسية والاجتماعية القائمة منذ سنوات.
تتحدث الدراسة عن حالة تآكل الثقة بين الحكومة والشارع، وعن تزايد الانتقادات الموجّهة إلى القيادة السياسية والعسكرية بشأن إدارة الحرب وتبعاتها، فبينما يرى تيار واسع من الإسرائيليين أن الحرب كانت ضرورية لضرب المقاومة الفلسطينية، يعتقد آخرون أنها كانت مغامرة مكلفة أدّت إلى خسائر بشرية واقتصادية ومعنوية جسيمة، دون تحقيق إنجاز حقيقي.
كما يشير التقرير إلى أنّ أزمة الثقة داخل المؤسسة العسكرية نفسها بدأت تظهر إلى السطح، وأن هناك توتراً في أوساط الجنود والضباط نتيجة طول أمد العمليات، والغموض في الأهداف النهائية للحرب، ويخلص التقرير إلى أن استمرار هذا الانقسام قد يهدد التماسك الداخلي للمجتمع الإسرائيلي في المدى المتوسط، ما لم تُتخذ خطوات جادة لمعالجة جذور الخلافات.
تحولات إقليمية تقلق "إسرائيل"
من الزاوية الإقليمية، يحذر التقرير من أن حرب غزة أحدثت تغييرات جوهرية في موازين القوى بالمنطقة، فبعض الدول، التي لعبت أدواراً ثانوية في السابق، أصبحت الآن فاعلة في الملف الفلسطيني، سواء في مفاوضات الهدنة أو في المساعدات الإنسانية، هذا التبدّل حسب التقرير يحمل في طيّاته تحديات أمنية وسياسية لـ"إسرائيل"، لأنه يفتح الباب أمام نفوذ أطراف لا تتقاطع مصالحها مع تل أبيب.
كذلك يرى معدّو التقرير أن المشهد الإقليمي بات أكثر تشابكاً، وأن أي صراع مستقبلي في غزة لن يكون محصوراً بين "إسرائيل" والفصائل الفلسطينية فقط، بل سيأخذ بعداً دولياً وإقليمياً أوسع، بمشاركة أطراف متعددة على المستويين السياسي والميداني.
نقد ذاتي ودعوة إلى مراجعة شاملة
اللافت في التقرير هو نبرته النقدية الداخلية، فبدل أن يكتفي بتبرير ما حدث، يدعو بوضوح إلى مراجعة شاملة للسياسات الإسرائيلية تجاه غزة والمنطقة، يشير التقرير إلى أن الهدنة الحالية، رغم أنها خففت من حدة المواجهة، لا يمكن اعتبارها نهاية للحرب، لأن جذور الأزمة ما زالت قائمة، والبيئة المحيطة أكثر هشاشة من أي وقت مضى.
كما يطالب التقرير بإعادة صياغة العقيدة الأمنية الإسرائيلية بما يتناسب مع المتغيرات، وبضرورة التوقف عن النظر إلى الصراع في غزة فقط من زاوية عسكرية، لأن استمرار هذا النهج لن يؤدي إلا إلى دوامة جديدة من العنف وعدم الاستقرار.
تداعيات بعيدة المدى
من الواضح أن هذا التقرير، الصادر عن مركز بحثي تابع للكيان الصهيوني، يعبر عن حالة قلق واضطراب داخل مؤسساته السياسية والأمنية في مرحلة ما بعد الحرب على غزة.
فالتداعيات لم تعد تقتصر على الخسائر الميدانية أو على الجدل حول أداء جيش الاحتلال، بل تجاوزت ذلك لتطال صورة الكيان على المستوى الدولي، وتكشف عمق أزماته الداخلية وتصدعات مجتمعه السياسي.
العزلة المتزايدة، والانقسامات الداخلية، وتراجع نفوذ الكيان في الإقليم، كلها مؤشرات تظهر أن الاحتلال يواجه مرحلة من التراجع والتخبط قد تمتد لسنوات مقبلة، ما لم تُواجه هذه الأزمات بتغييرات جوهرية في بنيته السياسية والعقائدية التي قادته إلى هذا المأزق.
ما بعد الحرب ليس كما قبلها
تكشف هذه الوثيقة الإسرائيلية أن حرب غزة لم تكن مجرد مواجهة عسكرية عابرة، بل محطة فاصلة أعادت صياغة كثير من المعادلات التي كانت تُعدّ راسخة، "إسرائيل" اليوم تواجه اختباراً متعدد الأبعاد: كيف تعيد بناء صورتها في الخارج؟ كيف تُرمّم ثقتها في الداخل؟ وكيف تتعامل مع بيئة إقليمية لم تعد تضمن لها التفوق والهيمنة؟
يبدو أن الإجابة على هذه الأسئلة لن تكون سهلة، وخاصة في ظل استمرار آثار الحرب وتبدّل مواقف الرأي العام العالمي، ومع أن التقرير لا يتحدث بلغة الهزيمة، إلا أنه يعبّر عن واقعية جديدة بدأت تتسلل إلى التفكير الإسرائيلي: حرب غزة تركت جروحاً أعمق من أن تُشفى بسرعة، وأظهرت أن القوة وحدها لا تكفي لتأمين الاستقرار، وأن "إسرائيل" باتت مضطرة لمراجعة نفسها أكثر من أي وقت مضى.
