الوقت- على الساحة العالمية، لطالما اقترنت سياسة القوى العظمى في التعامل مع قدرات الدول الأخرى باعتبارات خاصة، حيث يستفيد الحلفاء الأوفياء من المرافق والتقنيات المتقدمة، بينما تواجه الدول المستقلة والحيوية قيودًا وضغوطًا شديدة، وتُعد الولايات المتحدة مثالًا بارزًا على استخدام هذا النهج المزدوج، الذي أظهر بوضوح اختلاف سلوكها مع الدول المتحالفة والمعادية على مدى العقود الثمانية الماضية.
ويتجلى أحدث مثال على هذا النوع من السلوك المتناقض في الاجتماع بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيز يوم الاثنين (18 أكتوبر)، في هذا الاجتماع، وُقِّعت اتفاقية بقيمة 8.5 مليارات دولار أمريكي لتوفير المعادن لمواجهة الصين بين البلدين، ومن المقرر أن تستثمر واشنطن 2.2 مليار دولار أمريكي في مشاريع التعدين الأسترالية.
وفي هذا الاجتماع أيضًا، حظيت أستراليا بدعم ترامب لتطوير غواصات نووية في إطار اتفاقية "أكوستيك" الهادفة إلى تعزيز الأمن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وبموجب الاتفاقية، التي وُقِّعت في عهد جو بايدن، وتُقدَّر قيمتها بنحو 368 مليار دولار أسترالي (239 مليار دولار أمريكي)، ستشتري أستراليا غواصات نووية أمريكية بحلول عام 2032، ثم تتعاون مع بريطانيا لبناء جيل جديد من الغواصات.
إثارة الحروب في منطقة آسيا والمحيط الهادئ
لطالما صوَّر دونالد ترامب نفسه رسول سلام في العالم، وادّعى أنه نجح في إنهاء ثماني حروب إقليمية، لكن سياساته عمليًا تُثبت عكس هذه الادعاءات، فالمساعدات العسكرية الأمريكية والأسلحة النووية التي تُقدِّمها الولايات المتحدة لحلفائها لا تُعزِّز أمنهم فحسب، بل تُؤجِّج أيضًا بشكل غير مباشر نيران الصراع مع خصومها، من الأمثلة الواضحة على هذه السياسة تجهيز أستراليا بغواصات نووية، بهدف مواجهة القوة المتنامية للصين، أكبر منافس ناشئ لأمريكا في آسيا والمحيط الهادئ.
إن تعزيز التعاون الأمني والعسكري الأمريكي مع حلفائه في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، والذي ركزت عليه واشنطن بشكل أكبر في السنوات الأخيرة، يزيد بطبيعة الحال من التوتر والتنافس مع الصين، لذلك، فإن معاهدة أكوس وتزويد أستراليا بغواصات نووية وأسلحة حديثة أخرى لا يجلبان السلام والأمن فحسب، بل قد يكونان أيضًا محفزًا لأزمات جديدة مشابهة لأوكرانيا، ولكن هذه المرة مع خطر نشوب صراع نووي، لذلك، فإن تكثيف التنافس على الأسلحة والعسكرة الناتج عن هذه الاتفاقية يهدد الاستقرار الإقليمي ويزيد من احتمال نشوب صراعات واسعة النطاق وعواقب لا يمكن التنبؤ بها.
ازدواجية معايير الغرب
تُظهر الاتفاقية المذكورة آنفًا أنه من وجهة نظر رجال الدولة الأمريكيين، يُمكن لحلفائها وشركائها المقربين تصنيع جميع أنواع الأسلحة وتطوير البرامج النووية دون أي قيود، بينما تُنشئ الجهات الفاعلة والدول ذات السياسة المستقلة التي لا تتبع سياسات واشنطن عقباتٍ كبيرةً تمنعها من الوصول إلى السلطة في هذه المجالات الحيوية.
وبناءً على هذه المعايير المتناقضة، أكد آية الله خامنئي، المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، في تصريحاته الأخيرة أن الصناعة النووية شأن داخلي، وأنه لا مجال للنقاش حولها، قائلاً: "ما الذي يهم أمريكا سواء امتلكت إيران منشآتٍ وصناعاتٍ نووية أم لا؟ هذه التدخلات خاطئةٌ وقسريةٌ ولن يكون لها أي تأثيرٍ على الشعب الإيراني".
تُظهر مقارنة المواجهة الأمريكية مع أستراليا وسياستها العدوانية تجاه إيران أن واشنطن تُقسّم الدول إلى "داخلية" و"خارجية"، وبناءً على هذا التقسيم، تُعرّف الأسلحة النووية للحلفاء على أنها حامية للسلم والاستقرار الدوليين، وتُعرّف المعرفة النووية السلمية للدول الأخرى على أنها تهديد للسلم والاستقرار العالميين.
يُعدّ البرنامج النووي السلمي لإيران أيضًا من الحالات التي أعاقتها في مكانتها كدولة مستقلة ومتمردة، لدرجة أن واشنطن تدّعي وجوب وقف الجمهورية الإسلامية جميع أنشطتها النووية، مع أن هذه الأنشطة سلمية تمامًا ومتوافقة مع القانون الدولي.
يأتي تنمر الولايات المتحدة على البرنامج النووي الإيراني في وقت لا تُفرض فيه قيود على الجهات الفاعلة الأخرى في غرب آسيا فحسب، بل تُصرّ واشنطن نفسها على مساعدة حلفائها في الشؤون النووية.
على سبيل المثال، في أبريل/نيسان 2025، أعلنت واشنطن والرياض أنهما على وشك توقيع اتفاقية لتطوير البرنامج النووي السلمي للمملكة العربية السعودية، ويشمل هذا التعاون بناء محطات طاقة نووية وتزويد المملكة العربية السعودية بالتكنولوجيا النووية الأمريكية، وفي سبتمبر/أيلول الماضي، وقّعت الولايات المتحدة وتركيا مذكرة تفاهم للتعاون النووي، تضمنت دعمًا ماليًا للمشاريع النووية، وخاصةً المفاعلات النووية الصغيرة (SMRs) في تركيا.
علاوة على ذلك، التزمت واشنطن الصمت ولم تفرض أي قيود على البرنامج النووي العسكري للكيان الصهيوني، الذي يُشكّل تهديدًا خطيرًا للسلام والاستقرار في منطقة غرب آسيا، يكشف هذا النهج بوضوح عن نفاق واشنطن في ادعائها السعي للحفاظ على السلام والأمن الدوليين، وتطبيقها سياسة مزدوجة في التعامل مع الحلفاء المطيعين ضد الخصوم وغير المنحازين.
نهج إيران يُلهم دولًا أخرى
كما يتضح جليًا من الخلاف المتزايد بين القوى الشرقية والغربية في مجلس الأمن الدولي، فإن مواقف إيران المنطقية والمبدئية بشأن حق جميع الدول في استغلال المعرفة النووية السلمية، دون الحاجة إلى الخضوع لإكراه وضغط القوى العظمى، تحظى باهتمام وقبول متزايدين يومًا بعد يوم.
تقوم سياسة الجمهورية الإسلامية على مبدأ أن تطوير الطاقة النووية حقٌّ طبيعي لجميع الدول، وأنه لا يحق لأي حكومة تقييد مسار تقدم الآخرين بالضغط أو التهديد. في المقابل، عززت معايير الغرب المزدوجة والخاطئة في التعامل مع البرنامج النووي مصداقية وشعبية نهج إيران على المستوى الدولي.
يُلهم هذا التوجه دولًا أخرى في المنطقة والعالم لمواصلة برامجها النووية باستقلالية وسلمية، ويُظهر أن السياسات التي يفرضها ويمليها قادة البيت الأبيض وحلفاؤهم لم تعد قادرة على منع تقدم دول المنطقة واعتمادها على نفسها في مجال التكنولوجيا النووية، بل حتى العسكرية.
بعبارة أخرى، قدّمت إيران، بصمودها المنطقي ودفاعها عن حقوق الشعوب، نموذجًا ناجحًا يُبطل قيود وضغوط الغرب ويُعيق فعاليتها، ويُمهّد الطريق للتعاون العلمي والتكنولوجي والتنمية في العالم.
