الوقت- تخطو الصين بعزم على درب توسيع نطاق استخدام اليوان وترويجه في ساحات التجارة العالمية، تتزامن هذه المساعي الصينية مع انحسار موجات الثقة الدولية بالدولار الأمريكي، حيث تؤكد طائفة من التقارير الاقتصادية، بما فيها ما نشره “سي.إن.بي.سي نيوز” بقلم “لي ينغ شانغ”، تراجع الثقة العالمية بالعملة الأمريكية، ويرى الخبراء أن مساعي الصين لتعزيز مكانة اليوان تهدف إلى زعزعة عرش الدولار، وعلى الرغم من أن الدولار لا يزال متربعاً على عرش العملات العالمية، فإن جهود الصين في ترويج اليوان استطاعت أن تنال من هيبته العالمية، وتقوّض أركان سيادته.
وتشير التقارير الاقتصادية إلى هبوط المؤشر العالمي للدولار الأمريكي بما يتجاوز تسعة في المئة هذا العام، في حين ارتفع الرواج العالمي لليوان بنسبة تفوق اثنين في المائة، ويفصح تقرير “سي.إن.بي.سي نيوز” للنصف الأول من عام 2025 أن الدولار الأمريكي قد هوى أمام اليورو والجنيه الإسترليني واليوان الصيني، ويصف كثير من المستثمرين العالميين وضع الدولار الراهن بأنه “أسوأ حالاته في التاريخ المعاصر لانتشاره العالمي”.
ثمار عكسية لسياسات ترامب
يُبدي “دونالد ترامب”، رئيس الولايات المتحدة، حساسيةً بالغةً تجاه تعزيز المكانة العالمية للدولار، وقد أطلق سهام التهديد صوب دول مجموعة بريكس بفرض عقوبات اقتصادية وتعريفات تجارية باهظة إذا ما نحّت الدولار جانباً، بيد أن التقارير تشير إلى أن سياسات ترامب نفسها تعدّ أحد المعاول الرئيسية في تقويض المكانة العالمية للدولار الأمريكي.
فالسياسات التجارية التي ينتهجها دونالد ترامب في فترة رئاسته الثانية، ولا سيما “التعريفات الباهظة” المفروضة على الدول الأخرى، قد أثارت غبار الشك حول الانضباط المالي واستقلالية البنك المركزي الأمريكي، ما أفضى إلى زعزعة الثقة باستقرار الدولار، فقد بات أرباب المال والأعمال حول العالم يشهدون كيف تؤدي المراسيم التنفيذية لترامب بصورة مباشرة ومفاجئة إلى تأرجح قيمة الدولار بين الصعود والهبوط، وهذا الافتقار إلى الاستقرار قد قوّض صروح الثقة العالمية بالدولار خارج الولايات المتحدة بشدة، حتى غدا كثيرون في عالم التجارة العالمية يتلمّسون طريقهم نحو عملات بديلة تتسم بالثبات والرسوخ.
وفي ظل تصاعد غيوم الريبة وتقلص رقعة الثقة العالمية بالدولار، ضاعفت المؤسسات المالية الصينية جهودها الرامية إلى تدويل اليوان وإطلاقه من عقاله المحلي. وقد أفصح أحد مديري بنك الصين فرع هونغ كونغ لموقع “غلوبال نيبورز” الاقتصادي قائلاً: “المؤسسات المالية والمصارف التي لم تكن تلقي بالاً لليوان سابقاً، باتت الآن تتداوله بيسر وتقبله في المعاملات كعملة أجنبية ذات شأن”.
وحتى البنك المركزي الأوروبي قد التفت إلى انحسار المكانة العالمية للدولار، حيث دعت “كريستين لاغارد”، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، في تقريرها المالي الصادر في يوليو من عام 2025، إلى تعزيز المكانة الدولية لليورو، مشيرةً إلى تراجع نصيب الدولار في ميدان المعاملات الخارجية.
منطق هيمنة الدولار
وفقاً لما أعلنه البنك المركزي الصيني (PBOC)، يتبوأ اليوان حالياً مرتبة ثاني أكبر عملة للتمويل التجاري، وثالث أكبر عملة للدفع المباشر في العالم، ومع ذلك، لا يزال تدويل اليوان مساراً محفوفاً بالمشقة ومليئاً بالعقبات، وحسب “يو يونغدينغ”، خبير الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، فإن تدويل أي عملة أجنبية وانتشارها في أرجاء المعمورة، بما في ذلك اليوان، هو “مسيرة طويلة الأمد شديدة التعقيد”.
وتكشف بيانات البنك المركزي الصيني وتقارير الخزانة الأمريكية أنه على الرغم من اتساع نطاق تدويل اليوان بشكل ملحوظ خلال العقد المنصرم، إلا أنه لا يزال متأخراً في المضمار خلف الدولار واليورو، فالصين تعدّ ثاني أكبر اقتصاد في العالم وتتمتع بمكانة تجارية مرموقة على المستوى الدولي، غير أن الرقابة على رأس المال، والقابلية للتنبؤ، والأسواق المالية العالمية الكبرى لا تزال تحت سطوة الدولار الأمريكي وهيمنته.
وبوجه عام، كلما ذاع صيت عملة أجنبية واتسع نطاق تداولها تجارياً على المستوى العالمي، غدت التجارة والتسوية بها أكثر سلاسةً وكفاءةً، والدولار لا يزال يتمتع بهاتين الميزتين، وهما ما يشكّلان جوهر هيمنة الدولار الأمريكي ومنطق سيادته.
أدوات الصين لتعزيز اليوان
لتعزيز المكانة العالمية لليوان، شيّدت الصين خلال السنوات القليلة المنصرمة نظام مدفوعات بين البنوك عابراً للحدود يُعرف باسم “سيبس” أو “نظام الدفع بين البنوك عبر الحدود” (CIPS)، ويسعى الصينيون إلى جعل “سيبس” بديلاً للنظام الغربي “سويفت” (SWIFT). و"سويفت" هو شبكة مالية تأسست في مايو عام 1973 بواسطة 239 مصرفاً من 15 دولة أوروبية وأمريكا الشمالية، وكان الهدف منها استبدال طرق المعاملات المالية العالمية القياسية بالطرق التواصلية غير القياسية والورقية على المستوى الدولي، لكنها تحولت خلال السنوات المنصرمة إلى سلاح غربي لمواجهة الدول الأخرى، وقد أطلقت الصين بهدوء النسخة غير الغربية من “سويفت” باسم “سيبس” منذ عام 2015، وتحولت هذه الشبكة المصرفية الآن إلى “طريق سريع” للمدفوعات الخارجية والدولية. وحتى أغسطس من عام 2025، أي قبل شهرين، ربطت شبكة “سيبس” أكثر من 1700 مؤسسة مالية في 180 دولة حول العالم، بما في ذلك مؤسسات كبرى في أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا.
وتنطق الأرقام بلسان الحال فيما يتعلق بشبكة “سيبس” المالية، ففي عام 2024 وحده، تم تداول 175 تريليون يوان (أربعة وعشرين ونصف تريليون دولار) في “سيبس”، بزيادة قدرها 43 في المئة مقارنةً بالعام السابق، ولذلك، يعدّ “سيبس” أداةً جوهريةً سهّلت عولمة اليوان وتداوله بيسر للدول خارج الصين، كما أنهت هيمنة “سويفت” أحادية الاتجاه، وهي مؤسسة تيسر الاتصالات المالية في الغرب، ويشير تقرير موقع “غلوبال نيبورز” الاقتصادي إلى أنه بحلول نهاية عام 2024، افتتحت أكثر من ألف مؤسسة مالية أجنبية حسابات مالية قائمة على اليوان في المصارف المرتبطة بـ “سيبس”، وهو ما يظهر نمو استخدام اليوان بأداة غير “سويفت”.
الطريق الوعر لليوان في مواجهة الدولار
على الرغم من اتساع نطاق الاستخدام العالمي لليوان، لا تزال هناك تحديات جمة تواجه الانتشار الواسع لهذه العملة الأجنبية، ووفقاً لإدارة النقد الأجنبي الصينية، يشكّل اليوان نحو 54 في المئة من إجمالي المدفوعات الخارجية للمؤسسات الصينية حتى يوليو من عام 2025، أي قبل شهرين، وهذه النسبة تعادل ضعف ما كانت عليه قبل عقد من الزمان.
وفي عام 2023، تجاوز اليوان اليورو وأصبح ثاني أكبر عملة للتمويل التجاري في العالم، ويكشف التقرير التحليلي للبنك المركزي الصيني لعام 2025 أن 77 في المئة من الشركات في دول رابطة جنوب شرق آسيا (آسيان)، فضّلت استخدام اليوان في التجارة مع الصين، كما تشير استطلاعات الرأي إلى أنه مع تراجع قوة سيولة الدولار واليورو، أعربت نحو ثمانين في المئة من الشركات الدولية عن اعتبارها اليوان بديلاً للدولار واليورو، والمصارف الصينية تزيد بهدوء من قروضها باليوان خارج حدودها، فحتى يونيو من عام 2025، قدّمت المؤسسات المالية والمصرفية الصينية قروضاً بقيمة واحد وخمسة عشر من مائة تريليون يوان للشركات الأجنبية، وهو أعلى مستوى في العقود المنصرمة.
ومع ذلك، لكي يتحول اليوان إلى عملة عالمية حقيقية، فإنه يحتاج إلى ما هو أبعد من مجرد الدعم السياسي، ويرى الخبراء أن وجود سوق خارجية قوية أمر لا غنى عنه لمنافسة اليوان للدولار واليورو، ويبدو أن الصينيين يوجهون أبصارهم صوب هونغ كونغ كمركز دولي لليوان، فالاتصالات المالية لهونغ كونغ مع شتى الدول والمؤسسات الدولية، جعلت من هذه المنطقة جسراً بين الصين ودول رابطة جنوب شرق آسيا (آسيان) وآسيا الوسطى وحتى الغرب، ويثق الصينيون في أن هونغ كونغ يمكنها أن تتبوأ مكانة المركز العالمي لتداول اليوان، بديلاً عن نيويورك التي تعدّ حالياً المركز العالمي لتداول الدولار.