الوقت- في خضم التوترات المتصاعدة والحرب الشاملة التي شملت قطاع غزة والضفة الغربية، اتّجهت الأنظار إلى صفقة التبادل التي أُعلن عنها بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني، والتي أدّت إلى إطلاق سراح نحو ألفين من الأسرى الفلسطينيين مقابل إطلاق كلّ من الأسرى الإسرائيليين الباقين الأحياء، ولكن من المؤكَّد أن الجانب الإسرائيلي تعمَّد خروقات ومماطلات استُخدمت لعدم الإفراج عن عدد من الأسرى البارزين الذين تُعتبرهم قيادات في الفصائل والمقاومة، أو ممن يُمثِّلون رموزًا سياسية أو عسكرية تُخشى من دورهم بعد التحرير.
إن استثناء هؤلاء الأسرى له دلالات كبيرة من الناحيتين الرمزية والسياسية، ولذلك فإن فهم أسمائهم، مآلاتهم، والسبب في استثنائهم، يُعدّ ركيزة لفهم أوسع لمعركة الكرامة الفلسطينية في سجون الاحتلال.
فيما يلي نستعرض هؤلاء الأسرى البارزين، ونناقش الخلفيات والمبرّرات المحتملة لاستمرار اعتقالهم، والتداعيات المحتملة لهذا الاستثناء.
من هم الأسرى البارزون المستثنون؟
من المصادر الفلسطينية والعربية التي تابعت صفقة التبادل، وردت أسماء لعدة أسرى بارزين طالبت المقاومة بإدراجهم ضمن المفرَج عنهم، لكن الكيان الصهيوني رفضهم صراحة، من بين هذه الأسماء:
مروان البرغوثي
يعتبر البرغوثي من أبرز القادة السياسيين في حركة فتح، وهو رمز لصمود الحركة الأسيرة ومَنْ يُنظر إليه على أنه خليفة محتمل أو زعيم قادر على توحيد الساحة الفلسطينية، وقد جُرِّد من الإفراج عنه في الصفقة، رغم أن اسمه كان في “قمة قائمة المطلب” التي طرحتها المقاومة.
يُذكر أن البرغوثي اعتُقل عام 2002 وحُكم عليه في 2004 بعد محاكمة عسكرية إسرائيليّة بالسجن المؤبد خمس مرات بالإضافة إلى عقوبات سنوية أخرى.
وقد أكّدت وسائل إعلام أن "إسرائيل" استخدمت “حق النقض” (في آلية التبادل) لاستبعاد اسمه من الصفقة، رغم الضغوط الدولية والوساطات التي سعت لإدراجه.
أحمد سعدات
الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهو من القيادات التي طالبت المقاومة بإدراجها في أي صفقة تبادل.
ولا تزال سلطات الاحتلال تماطل في الإفراج عنه، على الرغم من أن اسمه ورد بين مطالب المقاومة الأساسية في مفاوضات الأسرى.
عبد الله البرغوثي
من أبرز قادة في كتائب القسام، وهو مطلوب من قبل المقاومة ضمن قوائم التبادل لكن تم استبعاده فعليًا، جاء ذكر اسمه بين أولئك الذين رفض الكيان الإفراج عنهم.
حسن سلامة
القائد البارز في كتائب عز الدين القسام، وهو شخصية استراتيجية كانت المقاومة تصرّ على إطلاقه في أي صفقة تبادل كبيرة، تمّ استبعاده أيضاً عن قائمة المفرَج عنهم النهائيّة.
عباس السّيد
تم ذكر اسمه من بين القادة الذين طالبت المقاومة بإطلاق سراحهم، لكنه أيضاً لم يُدرج في قوائم الإفراج النهائية.
إبراهيم حامد
من القادة الذين ذكرتهم بعض المصادر كمطلوبين للإفراج، لكنهم لم يكن في لائحة الإفراج النهائية التي أُقرّت
من الجدير بالذكر أن بعض المصادر تتحدّث عن وجود ما بين 5 إلى 6 قادة “أوراق رابحة” (كما وصفتها صحيفة عربية) رفض الكيان الصهيوني تسليمهم في الخطة الأخيرة.
باختصار، هؤلاء الستة أو أكثر يُشكّلون “الرموز الكبيرة” التي رفض الكيان الإفراج عنها، رغم أن المقاومة جعلت إطلاق سراحهم شرطًا أساسيًا في مفاوضات التبادل.
لماذا رفض الكيان الصهيوني الإفراج عن هؤلاء الأسرى البارزين؟
لفهم هذا القرار الإسرائيلي، لا بد من النظر إلى عدة عوامل سياسية واستراتيجية:
1- الخشية من التأثير السياسي بعد الإفراج
إطلاق سراح شخصيات بارزة مثل مروان البرغوثي أو أحمد سعدات قد يُحدث زلزالًا في الساحة الفلسطينية، من الناحيتين التنظيمية والسياسية، البرغوثي يُنظر إليه على أنه شخصية قد تُعيد تشكيل موازين القوى داخل فتح، وقد يُشكّل محركًا لوحدة أو مواجهة مع السلطة القائمة، الكيان الصهيوني لا يريد أن يُمنح هذه الأداة للاعب فلسطيني مؤثر.
2- مبدأ “لا للتساهل مع القادة المتهمين بالإرهاب”
الكيان الصهيوني غالبًا ما يتبع سياسة صارمة في إدارك الرموز التي اعتبرها “إرهابية” أو مسؤولة عن عمليات ضد مواطنين إسرائيليين، من وجهة نظره، قد يُعدّ إطلاقهم بمثابة مكافأة على ما رُوّج من جرائم، أو تشجيعًا على مزيد من العمليات في المستقبل.
3- البعد التمثيلي في صفقة التبادل
عند إجراء صفقة تبادل، غالبًا ما يُقدَّم عدد كبير من الأسرى ذوي الأحكام المتوسطة أو الذين يُعدّون “أقل خطورة” لكي يُظهر الكيان أنه “يُجري مفاوضات جدّية” ويُفرج عن بعض المعتقلين، بينما يتم الاحتفاظ بالقيادات الكبرى، حيث يُمكن التذرّع بأسباب أمنية أو قانونية لعدم تحريرهم.
4- الضغوط السياسية الداخلية والإيديولوجية
في السياق الإسرائيلي الداخلي، قد تواجه الحكومة ضغوطًا من أطياف يمينية تُعارض الإفراج عن “إرهابيين كبار” معتبرةً أن هذا يُشكّل ضعفًا أمنيًا أو مهددًا للردع، لذا، فإن رفض الإفراج عن هؤلاء القادة قد يكون أحد ثوابت السياسة التي لا يُسمَح بالتنازل عنها بسهولة، مهما بلغت الضغوط.
5- المراوغة والمماطلة في تنفيذ الصفقة
حتى في الاتفاقات التي تبرمها الأطراف، قد يُحتفظ بحق التفسير أو التنفيذ، أو قد تُركّب “شروطًا تنفيذية” صعبة تجعل الإفراج مستحيلاً فعليًا، قد تكون هذه المماطلات جزءًا من استراتيجية للحفاظ على أوراق ضغط مستقبلية.
6- موازين القوة في التفاوض
قد يكون الموقف الفلسطيني – ولا سيما المقاومة – مجبرًا على تقديم تنازلات بسبب واقع القوة الميدانية، ما يدفعها إلى قبول صفقة لا تشمل إطلاق سراح جميع المطالبين، بينما يحتفظ الكيان بصلاحية استثناء “القيادات العليا".
دلالات الاستثناء وأبعاده
إن استمرار اعتقال هؤلاء الأسرى البارزين يحمل في طيّاته دلالات ومعانٍ متعددة، يمكن تلخيص بعضها على النحو التالي:
رسالة سياسية وسيادية
الكيان الإسرائيلي بذلك يرسل رسالة واضحة مفادها: حتى في حالة التبادل، لا يمكن التهاون مع من يرى أنهم يمثلون خطرًا سياسيًا أو أمنياً، إنه احتفاظ “بالموجود القيادي” كشكل من أشكال السيطرة الرمزية.
إضعاف المشروعية الفلسطينية الداخلية
إبقاء أسماء مثل البرغوثي وسعدات في السجون يضعف القدرة على تجديد الشباب الفلسطيني، ويجعل القادة الباقين في الساحات هم من ذوي النفوذ التنظيمي أو المحلي، وليس بالضرورة ممن يمتلكون البعد الوطني الأشمل.
إدامة حالة الاحتجاج والضغط الشعبي
من الناحية المعنوية، تتيح هذه الحالة استمرار الحراك الشعبي للمطالبة بالإفراج عن هؤلاء القادة، تُبقي القضية حيّة في الوعي الفلسطيني والعربي، وتمنح المقاومة ورقة ضغط مستمرة في أي مفاوضات مستقبلية.
المخاطر الأمنية التي يُحسب لها الكيان حسابًا
من منظور إسرائيلي، قد يُخوَّف من أن يُحوّل القائد المفرج عنه إلى شخصية تؤسس استراتيجية أو تُنسّق بين الفصائل الفلسطينية، فتكون القوة التي تربك معادلات السيطرة، لذلك تُعتبر هذه الاستثناءات “احتياط أمني سياسي” من وجهة نظره.
التناقض بين الحقوق والواقع العملي
بينما يُنظر إلى قضية الأسرى كواحد من القضايا المحورية في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، تبرز التناقضات بين الموقف الحقوقي (الذي ينادي بالإفراج الكامل عن جميع الأسرى) وبين الواقع العملي الذي تفرضه تفاوضات التبادل على الأرض.
مخاطر وتحديات أمام الأسرى البارزين المستبعدين
إن بقاء هؤلاء الأسرى داخل السجون يواجههم بعدّة مخاطر وتحديات:
- التدهور الصحي وسوء المعاملة
في العادة، يُعاني الأسرى ذوو الأحكام العالية أو المنعزلون من ظروف اعتقال أشد قسوة، وقد يُمنع عنهم العلاج الكافي أو التواصل مع الجهات الدولية.
- العزل الانفرادي والضغط النفسي
قد يُستخدَم العزل أو أساليب الضغط النفسي لمنع تواصلهم مع باقي الأسرى أو فرض الانكسار المعنوي.
- تراجع التأثير الرمزي بسبب الإهمال الإعلامي
إذا ظلوا لفترات طويلة دون أن تنشط قوى الضغط الداخلية أو الخارجية للدفاع عنهم، قد يتراجع أثرهم الرمزي.
- إمكانية استغلال المماطلات لتمديد الاعتقال
قد يُستخدم تأخير الإجراءات القانونية أو الاعتراضات الجمهوريّة أو الأمنية لتمديد اعتقالهم بذرائع واهية.
مواقف واستجابات فلسطينية ودولية بعد الصفقة
بعد تنفيذ صفقة التبادل، ظهرت عدة مواقف تعكس التوتر حول الاستثناءات:
- المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حماس، أكدت أن إطلاق سراح القادة البارزين كان من شروطها الأساسية، وأن عدم تحقيق ذلك يُمثّل إخلالًا بالتوازن في الصفقة.
- بعض الأطراف الأوروبية والدول العربية حاولت الضغط على الكيان الصهيوني لإدراج بعض هؤلاء القادة في الإفراج، لكن الردّ الإسرائيلي ظل متعنتًا، مفضّلًا استخدام “حق النقض” ضد إدراج البرغوثي كما ورد في تقارير إعلامية.
- داخل الساحة الفلسطينية، رُفعت نداءات وإنشئت حملات تضامنية للدفاع عن هؤلاء الأسير، وإبقاء قضيتهم في واجهة الرأي العام.
- بعض المراقبين أشاروا إلى أن استثناء البرغوثي تحديدًا قد ينبع أيضًا من خشية السلطة الفلسطينية من تأثيره على بنية السلطة الحالية، فإطلاق سراحه قد يُحرّض على تجديد المشهد السياسيإن قصة الأسرى البارزين الذين لم تُفرَج عنهم سلطات الكيان الصهيوني في صفقة التبادل تمثل وجهًا مضادًا للمفرَج عنهم: فبينما تتوزّع ابتسامات الفرح على من خرجوا إلى الحرية، تظل وجوه هؤلاء القادة في الظل، لا تُرى إلا عبر القصائد والتضامن والشعارات.
من البديهي أن أي صفقة تبادل لا يمكن أن تُحقّق جميع مطالب الأطراف، لكن استثناء هؤلاء الأسماء بالذات من البرغوثي إلى سعدات وسائر الزعماء هو استثناء ذي دلالة بالغة. إنه استثناء لصانع التاريخ داخل السجون، رمز للصمود والتحدي، وتهديد محتمل إذا أُطلق سراحه.