الوقت- في اللحظات التي ينتظر فيها الفلسطينيون بلهفة خروج أبنائهم من سجون الاحتلال الإسرائيلي بعد شهورٍ من المعاناة في حربٍ وصفت بأنها الأكثر دموية في تاريخ الصراع، يواصل جيش الاحتلال ودوائر أمنه نهجهم القديم الجديد: إذلال الأسرى، كسر إرادتهم، ومصادرة فرحة حريتهم حتى قبل أن تشرق شمسها، فبينما يستعد العالم لسماع أخبار "الهدنة" و"صفقات التبادل"، يسابق كيان الاحتلال الاسرائيلي الزمن لتوثيق آخر لحظات القهر، ليس فقط داخل الزنازين، بل أمام الكاميرات التي تبث مشاهد الإهانة المنظمة، في محاولة لترسيخ صورة "الجيش الذي لا يُقهر" حتى وهو يجرّ الهزيمة على أرض غزة.
الإذلال كسياسة ممنهجة
منذ احتلالها للأراضي الفلسطينية عام 1967، طوّرت حكومة الاحتلال الإسرائيلي منظومة كاملة لإدارة السجون لا تقوم فقط على العقوبة، بل على السيطرة النفسية وتفكيك الهوية، السجن في العقل الإسرائيلي ليس مكانًا للعقوبة فحسب، بل هو مساحة لإعادة صياغة الفلسطيني نفسه — من مقاتل أو مقاوم إلى "مجرم" فاقد للكرامة، لكن مع تصاعد الحرب على غزة، وازدياد أعداد المعتقلين من المدنيين والصحفيين والأطباء وحتى النساء والأطفال، تحول السجن الإسرائيلي إلى مختبر للتعذيب والإهانة الجماعية، حيث يُعامل الإنسان كغنيمة حرب أكثر منه كإنسان.
في الأشهر التي سبقت التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار، كشفت منظمات حقوقية مثل "بتسيلم" و"هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية" عن شهادات مروّعة من داخل مراكز الاعتقال والسجون الإسرائيلية، أبرزها سجن سدي تيمان في صحراء النقب، الذي تحول إلى "غوانتانامو إسرائيلي"، كما وصفه جنود احتياط شاركوا فيه، تحدثت التقارير عن تعذيبٍ جسديٍّ منهجي، عن أسرى يُقيّدون بالسلاسل لساعات طويلة، وآخرين حُرموا من الماء والغذاء لأيام، وعن حالات وفاة تحت التعذيب جرى التعتيم عليها بالكامل.
لكن ما يثير السخط أكثر هو أن كيان الاحتلال الإسرائيلي لم يكتفِ بهذه الانتهاكات داخل جدران الزنازين، بل امتدت سياستها الإذلالية إلى خارجها، لتلاحق الأسرى حتى أبواب منازلهم، وحتى بعد الإعلان عن الإفراج عنهم.
مداهمة بيوت الحرية لمنع زغاريد الفرح
في الأيام القليلة التي سبقت بدء تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار والإفراج عن دفعات من الأسرى الفلسطينيين، شنّ جيش الاحتلال سلسلة من المداهمات الليلية في الضفة الغربية، استهدفت منازل أسرى متوقع الإفراج عنهم ضمن الصفقة.
لم تكن هذه المداهمات مجرد عمليات أمنية، بل أقرب إلى استعراض للقوة ورسالة انتقامية موجهة للشعب الفلسطيني: "لن نفرحكم، حتى لو أُجبرنا على الإفراج عن أبنائكم".
فقد اقتحم الجنود المنازل، وفتشوا غرف الأسرى، وصادروا الهواتف، ومزقوا صورهم المعلقة على الجدران، بل واعتدوا على أفراد العائلة في بعض الحالات، في مشهدٍ لا يمكن وصفه إلا بمحاولة لكسر فرحة النصر قبل أن تبدأ، وفي الوقت ذاته، نشرت وسائل إعلام إسرائيلية، بتنسيق مع الجيش، مقاطع فيديو تظهر الأسرى قبل الإفراج عنهم وهم في أوضاع مهينة: حفاة، رؤوسهم مطأطأة، وأيديهم مقيدة.
كانت تلك اللقطات جزءًا من حربٍ نفسية محسوبة تهدف إلى إرسال رسالة مزدوجة — للأسرى، بأنهم لا يملكون شيئًا من كرامة النصر، وللعالم، بأن "إسرائيل" رغم كل جرائمها لا تزال "تتحكم" وتُذل من تعتبرهم أعداءها.
محاولات نازية لإنقاذ الصورة أمام الداخل الإسرائيلي
منذ اندلاع الحرب على غزة في أكتوبر 2023، واجهت حكومة كيان الاحتلال الاسرائيلي أزمة غير مسبوقة في صورتها الدولية، فالمجازر ضد المدنيين، ودمار المستشفيات والمدارس، وفضائح المقاطع التي وثّقت جنودها وهم يحتفلون على أنقاض البيوت، كل ذلك جعل من الصعب عليها الدفاع عن نفسها أمام الرأي العام العالمي، لذلك، لجأت إلى استراتيجية موازية تقوم على إعادة إنتاج السردية البصرية: نشر صور الأسرى الفلسطينيين في وضعيات الإذلال، لتقول للعالم "انظروا، هؤلاء هم الإرهابيون" – محاولةً طمس جرائمها عبر صناعة مشهدٍ آخر يبدو فيه الفلسطيني مذلولاً، لا ضحية.
في هذه المقاطع التي جرى بثّها عبر حسابات رسمية، يظهر الجنود يضحكون، يلتقطون صورًا للأسرى وهم نصف عراة، أو يجبرونهم على ترديد عبارات بالعبرية، إنّها لقطات صُمّمت لتكريس التفوق العسكري الإسرائيلي في الوعي العام، ولإيصال رسالة إلى الداخل الإسرائيلي بأن "الجيش ما زال يسيطر"، حتى في لحظة إجباره على تقديم التنازلات السياسية.
كسر فرحة النصر: انتقام نفسي من الأسرى
يعرف الاحتلال أن الأسرى الفلسطينيين، بمجرد تحررهم، يصبحون رمزًا للكرامة والصمود في الوعي الجمعي الفلسطيني، لذلك، تعمل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية على كسر هذه الرمزية قبل أن تتجذر.
فهي تدرك أن الإفراج عن الأسرى ليس مجرد إجراء سياسي بل حدث وطني؛ وأن مشاهد الاستقبال الشعبية تعيد للناس إحساسًا بالنصر، ولو جزئيًا، بعد أشهر من الإبادة والتجويع، ولهذا، يسعى الجيش إلى وأد هذه اللحظة في مهدها.
فمنع المظاهر الاحتفالية، ومداهمة المنازل، واعتقال من يرفع الأعلام الفلسطينية أو يطلق الزغاريد، ليست مجرد إجراءات أمنية؛ إنها سياسة "الإحباط المسبق" التي تهدف إلى تحويل لحظة الفرح إلى لحظة خوف، وإعادة تذكير الفلسطينيين بأن الاحتلال يملك حتى حقهم في الابتسامة.
وقد أظهرت لقطات من مدن الضفة الغربية جنودًا إسرائيليين يقتحمون ساحات الاستقبال، ويمنعون نصب الخيام، ويطلقون قنابل الصوت لتفريق الجموع التي جاءت لتستقبل الأسرى، بينما كانت وحدات الإعلام الإسرائيلي تسارع إلى نشر صور أخرى تُظهر الأسرى قبل الإفراج، في محاولة لمحو صورة البطل واستبدالها بصورة "الضعيف المهان".
الجيش القائم على الإذلال
في واقع الأمر، لا يمكن فهم هذه السلوكيات بمعزل عن البنية النفسية للجيش الإسرائيلي ذاته، الذي تأسس منذ بداياته على فكرة "إظهار الردع بالقوة المفرطة".
لكن بعد حرب غزة الأخيرة، تراجعت هذه الصورة بشكل غير مسبوق، فمشاهد الانسحاب الفوضوي من بعض المناطق، وخسائر الجنود، وفشل العمليات البرية رغم التدمير الشامل، خلقت داخل الكيان الاسرائيلي أزمة هوية عسكرية.
لذلك، كان لا بد من "تعويض رمزي" — ووجدت المؤسسة الأمنية هذا التعويض في إذلال الأسرى.
فالإهانة هنا ليست فقط انتقامًا من الخصم، بل أيضًا تسكينًا لجرح الكبرياء العسكري الإسرائيلي، كل صورة لأسير منكّس الرأس، وكل مقطع يصفع فيه جنديٌ أسيرًا مكبلًا، هي محاولة لترميم صورة الجيش الذي فقد هالته في غزة.
بين القانون الدولي وصمت العالم
من الناحية القانونية، تُعتبر هذه الانتهاكات خرقًا صارخًا لاتفاقيات جنيف، التي تنص بوضوح على حظر المعاملة المهينة للأسرى أو نشر صورهم في أوضاع غير إنسانية، لكن حكومة الاحتلال كعادتها، تتصرف بثقة مطلقة في غياب المحاسبة الدولية.
فلم تُصدر الأمم المتحدة ولا اللجنة الدولية للصليب الأحمر سوى بيانات باهتة، تكتفي "بالقلق" و"الدعوة إلى التحقيق"، دون أي خطوات عملية أو عقوبات.
هذا الصمت العالمي شجّع الاحتلال على الاستمرار في انتهاكاته، إذ يدرك أنه مهما فعل، فالدعم الأمريكي والغربي سيبقى مظلته الواقية.
بل إن بعض وسائل الإعلام الغربية تعاملت مع مشاهد الأسرى المهانين كـ"تفاصيل أمنية"، متجاهلة السياق الإنساني الأوسع، ومكرسة بذلك رواية الاحتلال، هذا التواطؤ الإعلامي والسياسي يشكل جريمة مضاعفة، لأنه يُسهم في شرعنة الإذلال كأداة حرب.
الأسرى بين الجلاد والكاميرا
من المفارقات أن كيان الاحتلال الإسرائيلي، وهو يسعى لإذلال الأسرى عبر الكاميرا، لم يدرك أنه تيثق بنفسه جرائم حرب يمكن استخدامها ضده لاحقًا، فكل مقطع، وكل صورة، وكل صوت صراخ مسجل، هو دليلٌ دامغ على انتهاك الكرامة الإنسانية.
وقد بدأت بالفعل مؤسسات حقوقية فلسطينية ودولية في أرشفة هذه المواد استعدادًا لاستخدامها في المحاكم الدولية، معتبرة أن نشر صور الأسرى بهذه الطريقة يمثل شكلاً من أشكال التعذيب النفسي العلني، وهنا يبرز البعد الأخلاقي: إذ كيف يمكن لدولة تدّعي أنها "ديمقراطية" و"تحترم القيم الغربية" أن تبث للعالم مشاهد إذلال أسراها بهذه الطريقة المتعمدة؟
من ظلام الزنازين إلى ضوء الوعي
رغم كل هذا الإذلال، فإن المشهد لم يسر كما أراده الاحتلال. فبدل أن تُضعف تلك المقاطع صورة الأسرى، تحولت إلى وثائق للمظلومية الفلسطينية، وأعادت تسليط الضوء على وحشية السجان الإسرائيلي.
بل إن لحظة خروج الأسرى، رغم كل القيود، أصبحت رمزًا للنصر الأخلاقي على القوة الغاشمة.
فكل أسيرٍ رفع رأسه بعد خروجه، وكل أمٍّ صرخت باسم ابنها أمام عدسات الاحتلال، كانت تعلن أن الحرية ليست منّة من أحد، بل انتصار للكرامة على الرعب.
إنّ ما لم يفهمه الاحتلال حتى اليوم هو أن السيطرة على الجسد لا تعني السيطرة على الروح، وأن الفلسطيني الذي خرج من الزنزانة المظلمة لم يخرج مهزومًا، بل خرج شاهدًا على وحشية نظامٍ ينهار أخلاقيًا أمام عيون العالم.
الرسالة الأخيرة: جيش الإرهاب الأول في العالم
قد تكون حكومة الاحتلال الإسرائيلي نجحت في بثّ صور الأسرى المهانين، لكنها فشلت في إخفاء الحقيقة الأعمق: أن جيشها، الذي كان يتفاخر بكونه "الأكثر أخلاقية في العالم"، أصبح اليوم رمزًا للإرهاب الرسمي المنظم.
جيش يقتل الأطفال، يقصف المستشفيات، يعذب الأسرى، ويمنع الأمهات من الاحتفال بعودة أبنائهن، لا يمكن وصفه إلا بجيشٍ فقد إنسانيته، ولعلّ أكثر ما يكشف هذا التناقض هو أن هذا الجيش الذي يفاخر بتقدمه التكنولوجي والعسكري، يستخدم كل أدواته فقط لإذلال شعبٍ أعزل، كأنه لا يعرف إلا لغة الإهانة.
لكن حتى هذه الإهانة تفقد معناها أمام صمود الفلسطينيين الذين يحولون كل محاولة إذلال إلى دليل جديد على بشاعة الاحتلال، فبينما تلتقط الكاميرات صورهم في وضعية الخضوع، يراهم شعبهم والعالم رموزًا للشرف والصمود.
ختام القول
قبل تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، حاول الاحتلال الإسرائيلي أن يسرق من الفلسطينيين فرحة الحرية، وأن يثبت أنه سيبقى "الجيش الأقوى" حتى في لحظات الضعف، لكنه في الواقع أظهر نفسه كما لم يفعل من قبل: جيشًا يعيش على إذلال الآخرين ليخفي هزيمته.
إنّ محاولاته لامتهان الأسرى ومداهمة منازلهم ومنع الاحتفالات ليست سوى اعترافٍ ضمني بالهزيمة المعنوية، لأن من يخاف من الفرح، يخاف من الحقيقة.
ومهما حاول الاحتلال أن يكسِر الأسرى أمام الكاميرا، فإنّ التاريخ سيسجل أن أولئك الذين خرجوا من ظلام الزنازين، خرجوا بأرواحٍ أكبر من جدران السجن، وأنّ جيش الاحتلال، رغم كل طغيانه، لم ينتصر إلا على إنسانيته هو.