الوقت- في أوائل أكتوبر/تشرين الأول 2025 تصاعدت الاحتجاجات واحتدمت المواقف السياسية بعد اعتراض القوات البحرية الإسرائيلية لأسطولٍ دوليٍّ أطلق عليه منظّموه اسم «أسطول الصمود العالمي» أو «Global Sumud Flotilla»، الذي ضمّ أكثر من أربعين قارِبًا ومدنياً من نحو أربعين دولة حاملاً شحناتٍ رمزية من المساعدات وقيَمًا سياسيةً واضحة تهدف إلى تحدي الحصار البحري المفروض على قطاع غزة ومحاولة فتح ممرٍّ بحري إنساني إليه، أعاد هذا الحدث طرح أسئلةً قانونية وسياسية حول شرعية الحصار وحدود «التحرّك التضامني» المدني، كما كشف عن تباينٍ واضح في ردود فعل الدول الكبرى، وفي خصوص ذلك الدور الأمريكي.
ماذا حدث بالضبط؟
حسب منظمي الأسطول وراقبات الملاحة والصحافة الدولية، تحرّك الأسطول من موانئ في إسبانيا وإيطاليا ثم عبر الجزر اليونانية متجهاً نحو السواحل القريبة من غزة، رصدت فرق الأسطول عشرات السفن الحربية والإعلامية الإسرائيلية، وانتهت المواجهة البحريّة باعتقال قوات الاحتلال الإسرائيلية لعددٍ كبيرٍ من الناشطين والسيطرة على معظم القوارب، فيما وصفت حكومة الكيان الإسرائيلية العملية بأنها منع «خرقٍ مُحتمل» لحصارٍ تقول إنه قانوني لأسبابٍ أمنية، قُدّرت أعداد المعتقلين بنحو أربعمئةٍ إلى خمسمئة ناشط بحسب المنظمين وبعض وكالات الأنباء.
لماذا أثار هذا الأسطول اهتمامًا عالميًا؟
أسطولُ الصمود لم يكن مجرد محاولة لإيصال أطنانٍ من الغذاء أو الدواء — وهو ما بقيت كميات المساعدات فيه رمزيةً إلى حدٍ كبير — بل كان حملةً معلوماتية متقنة: بثّ مباشر من القوارب، أنظمة تتبُّع جغرافية، حضورٌ لوجستي ونقابي من أوروبا، مشاركات من شخصيات عامة ونشطاء معروفين، وتأطيرُ الرسالة على أنها محاولةٌ سلميةٌ لكسر حصارٍ إنساني، هذه المزاوجة بين فعلٍ ميداني وتقنياتِ تواصلٍ حديثةٍ أوجدت زخمًا إعلاميًا وساحقًا دفع بمشاعر الشارع إلى الشوارع وميناء الاحتجاجات.
كيف تفاعلت الدول مع اسطول الصمود؟
تباينت ردود الدول بين إدانةٍ شديدةٍ ونداءاتٍ للحِكمة. تركيا أصدرت بياناتٍ قويةً اعتبرت الاعتراض «عملًا إرهابيًا» ودعمت مطالب رعاياها؛ دولٌ أوروبية وُصفت بأنها غاضبةٌ أو قلقة، وبلدانٌ في أميركا اللاتينية أكدت انتهاك كيان الاحتلال الاسرائيلي القانون الدولي واستدعاء حقوق الملاحة، النقطة الأوضح في الخارطة الدولية هي أن الإدانة لم تُترجم إلى إجراءاتٍ دولية قاطعة أو عقوباتٍ فورية، بينما خرجت احتجاجاتٌ كبيرة في عواصمٍ متعددة تضامنًا مع الأسطول.
وإحدى أكثر ردود الفعل بروزًا كانت في إيطاليا: استجابت نقاباتٌ عمالية وحركاتٌ شعبية بدعواتٍ للإضراب العام ومظاهراتٍ جماهيريةٍ ضخمةٍ في روما ومدنٍ أخرى، حيث اعتبر المحتجون توقيف الأسطول خطوةَ اعتداءٍ على عمل إنساني ومؤشرًا على عبثية الصمت الدولي أمام مأساة غزة، هذا الغضب الشعبي حول الأسطول عبّر عن قدرة الحركات المدنية على تحويل حدث بحري إلى صفعةٍ دبلوماسيةٍ على رقبة الدول.
ماذا عن الموقف الأمريكي؟
كانت واشنطن — على مستوى المواقف الرسمية المتاحة للعامة — أقلّ تصعيدًا من أصواتٍ أخرى؛ ظهر تركيزها على ضمان سلامة رعاياها وتجنّبِ تصعيدٍ واسعٍ، مع مساعٍ دبلوماسية لتأمين وصول القنصليات إلى مواطنيها والمطالبة بـ«معاملة إنسانية» للموقوفين، بعبارةٍ أخرى، اختارت الصيغة الأمريكية النبرة الحذرة التي تجمع بين قلقٍ دبلوماسيّ على رعاياها ورفضٍ للانزلاق إلى مواجهةٍ مفتوحة مع كيان الاحتلال الاسرائيلي حول عملٍ رأت الأخيرة أنه يهدد أمنها البحري. غيابُ إداناتٍ أميركيةٍ شديدةٍ وواضحةٍ عادٍ إلى حسابات تحالفية واستراتيجية طويلة المدى في الشرق الأوسط؛ ما أعطى انطباعًا لدى معارضي كيان الاحتلال الاسرائيلي بأن العالم الكبير يملك أدواتٍ لكنه يمتنع عن استخدامها فعلًا عندما يتعلقُ الأمرُ بمواجهةِ ممارساتٍ قاسيةٍ لأحد حلفائه.
إضرابٌ مفتوح داخل السجون: تصعيد جديد
أعلنت اللجنة الدولية لكسر الحصار عن غزة أن عددًا من معتقلي سفن الأسطول دخلوا إضرابًا مفتوحًا عن الطعام منذ لحظة احتجازهم، في خطوةٍ تصعيديةٍ تهدف لرفع الضغط الأخلاقي والسياسي على كيان الاحتلال الاسرائيلي وبعث رسائل إلى الرأي العام الدولي عن ظروف الاحتجاز والمعاملة، هذه الخطوة تضيف بعدًا إنسانيًا جديدًا للحدث: لم تعد القضية مجرد اعتراض بحري، بل تحوّلت إلى ملف اعتداءٍ على حقوق معتقلين يتعهدون بالمقاومة الجسدية داخل السجون حتى الحصول على ضمانات أو إطلاق سراح.
بما يختلف هذا الأسطول عن مبادراتٍ سابقة؟
يمكن تصنيف الاختلاف في اسطول الصمود عن المبادرات السابقة من خلال ،الكمّ التقني والإعلامي أولاً فلم تعد الأساطيل السابقة تعتمد فقط على قواربٍ ومشاهد فردية؛ هذه المرّة استُخدمت تقنيات بثّ حي وتتبع مفتوح ومواقع إلكترونية رصدت الملايين، ما أعطى العمليّة زخمًا سريع الانتشار، الاختلاف الأخر يتمثل في التنظيم العابر للدول من جهة أخرى، تحالفُ نقاباتٍ، منظمات حقوق إنسان، وبرلمانيين ونشطاء من قارات عدّة شكّل شبكة دعمٍ أوسع من أي حملات سابقة.
وأخيراً يمكن الحديث عن الاختلاف من حيث الرمزية الإستراتيجية، فلم تكن الشحنة هي الهدف الرئيس، بل فتحُ قناة رمزية وسياسية لكسر ما يعتبره المنظمون «حصارًا ممنهجًا»، واختبارُ قدرة المجتمع الدولي على الردّ القانوني والإنساني.
مصير الأسطول: هل حقّق هدفه؟
من ناحيةٍ عمليةٍ بحتة، لم يتمكن الأسطول من إيصال حمولته إلى غزة بعد اعتراض القوات الإسرائيلية والتحفظ على القوارب واعتقال المئات. لكن من ناحيةٍ رمزيةٍ وسياسيةٍ نجح الأسطول في إعادة قضية الحصار إلى صدارة النقاش العالمي، في تحريك الشارع الأوروبي والعالمي، وفي خلق ضغطٍ دبلوماسيّ على كيان الاحتلال الاسرائيلي لشرح أفعاله، السؤال الأكبر الآن: هل يتحول هذا الزخم الشعبي والدولي إلى تدابير ملموسة (تحقيقات أممية، ضغوط برلمانية، مقاطعات اقتصادية) أم يذوي كغيره من موجات الاحتجاج؟ حتى الآن تبدو الأسئلة مفتوحة والنتائج المحددة غير حاسمة.
كيف أثبت العالم «عجزه» أمام الطغاة؟
الناقدون الذين رأوا في التوقيف مؤشراً على «عجز العالم» عرضوا مجموعة من النقاط:
التحالفات الاستراتيجية: عندما تتقاطع مصالح أمنية وسياسية مع مصالح تحالفات عسكرية، تميل دولٌ كبرى إلى الوقوف على الحياد أو إصدار بياناتٍ معتدلة بدلَ اتخاذ مواقفٍ رادعة، هذا الوهن السياسي يُترجم عملياً إلى حماية فعّالة لحوادث قد تُعتبر انتهاكًا للقانون الدولي.
الازدواجية القانونية: يمكن أن تتجاهل المنظومة الدولية في مناسباتٍ كثيرة تطبيقًا صارمًا للقانون الدولي حين يمسّ ذلك أمنَ حليفٍ قويٍّ، فيما تُطالب دولًا أخرى بالامتثال الفوري، هذه الازدواجية تضعف شرعية المؤسسات الدولية في نظر العديد من الشعوب.
التفوق العسكري والعمليّة الإجرائية: القوة البحرية لقوات الاحتلال الإسرائيلية وجاهزيتها التنفيذية سمحت لها بإنهاء تهديدٍ رمزيٍّ عمليًا بسرعةٍ، بينما قنوات الردّ الدبلوماسي والإعلامي تحتاج وقتًا لتتشكّل — وهنا يظهر الفرق بين القدرة على الفعل والقدرة على الردّ.
ختام القول
أسطولُ الصمود لم يُحرز اختراقًا فعليًا للحصار، لكنه نجح في اختراق حاجز الصمت الدولي وجَعْلَ معركة الضمير العالمي مرئيةً مرة أخرى، المواجهة البحرية أظهرت قدرة الشعوب والحركات على خلق موجة تضامن عالميّة سريعة، لكنها في الوقت ذاته أظهرت حدودَ هذا التضامن عندما يلتقي مع حسابات ميزان القوى والرهانات الاستراتيجية للدول، إعلان المعتقلين الإضرابَ المفتوح عن الطعام يحوّل الملف إلى اختبار إنساني وقانوني جديد أمام الرأي العام؛ والنتيجة النهائية — سواء أكانت إطلاق سراحٍ جماعي، تحقيقاً دولياً، أو مجرد ترحيل دبلوماسي للمحتجزين — ستعكس إلى أي مدى يستطيع المجتمع الدولي تحويل الغضب الشعبي إلى تدابير ملموسة تُنهي معاناة المدنيين في غزة، أو تكشف مجددًا عن مواطن الضعف في قدرة العالم على محاسبة «الطغاة» حين يمتزج الأمن بالسياسة والعلاقات.