الوقت- منذ بدء هجومه الأخير على غزة، بات الكيان الصهيوني يعيش وضعًا مليئًا بالأزمات التي لا يمكن تجاهلها؛ حين تهاجمه الانتقادات على المستويين الدولي والإنساني، ويُنبذ من حكومات وشعوب، بينما تهتز أركانه من الداخل نتيجة صراعات سياسية واقتصادية تتسلّل إلى المجتمع، بل إلى أجهزة الأمن والمخابرات. تصريحات جنرال ومتقاعد وآخرون من مؤسسات الأمن تشير بوضوح إلى أن الكيان الصهيوني فقد جزءًا كبيرًا من شرعيته المزعومة، وها هو يتجه نحو حالة من الانقسام المستعر. في هذا السياق تتصاعد المظاهرات ضد حكومة بنيامين نتنياهو، حيث الشارع الغاضب لا يقبل مزيدًا من الأكاذيب، ومزيداً من الدماء، ومزيداً من جرائم الحرب في غزة. فهذا ليس مجرد خلاف سياسي، بل مواجهة وجودية بين كيان يُصرّ على سياساته العدوانية.
العزلة الدولية
الكيان الصهيوني يقف الآن في مواجهة عزلة دولية غير مسبوقة، فجميع المعايير الأخلاقية والقانونية تنهار أمام جرائمه في غزة: قتل المدنيين، استهداف المدارس والمستشفيات وفرض حصارٍ خانق يمنع دخول المساعدات الإنسانية. دول عربية وإسلامية وأوروبية أدانت ذلك بشدة معتبرة أنه انتهاك للقانون الدولي. الأمم المتحدة تتحدث عن كارثة إنسانية، والمنظمات الحقوقية تصف ما يجري بجرائم حرب. بل إن المحكمة الدولية تُطالبه بتحمّل مسؤولياته، حيث تُسلّط التقارير الضوء على أن أعماله “تقوّض الشرعية والإنسانية” وتهدّد القوانين التي تلتزم بها الدول بشكل عام. وبالمقابل، الحضور الدبلوماسي للكيان الصهيوني يتقلّص، وهي دولة بات كثيرون ينظرون إليها كـدولة مارقة، تتجاهل القوانين الدولية، وتمارس التعذيب والحصار والقتل بلا حساب.
الانقسام الداخلي والخلافات السياسية العاصفة
ليس العزلة الدولية وحدها هي ما يزعزع الكيان؛ الصراع يحتدم من الداخل أيضاً. حكومة نتنياهو تواجه انتقادات لاذعة من أطراف متعددة: مؤسسات أمنية، جهات قضائية، وحتى من داخل حزبه. المحاكم، القضاء، ورؤساء أجهزة الأمن هم الآن على خلاف مع تعليمات الحكومة، فيما هناك من يرى أن قرارات الحرب تُتخذ لأهداف سياسية لا أمنية، بهدف البقاء في السلطة بدلاً من رفع المعاناة أو ضمان الأمان. المظاهرات الداخلية تكشف أن شرعية نتنياهو في تراجع؛ آلاف يتظاهرون ضد سياساته التي تُرى أنها تنخر مؤسسات الدولة، تُضعف الديمقراطية، تُهشّم قواعد العدالة، وتستبدل بمقاربات سلطوية. وسائل الإعلام الإسرائيلية نفسها تنقل أحيانًا أن الحكومة تُستخدم الحرب لتهميش الجهات التي تنتقدها ومنع المحاسبة.
أيضًا، الخلافات كثيرة بين اليمين المتطرف وبين تيارات الوسط، حتى داخل الأحزاب التي تدّعي الولاء للمشروع الصهيوني؛ هناك من يرفض تصاعد العنف بلا قيود، ومن يطالب بوقف استهداف المدنيين، ومن يعلن أن السياسات الحالية تدفع الكيان نحو كارثة سياسية وشعبية. هذا الانقسام ليس فقط حول إدارة الحرب، بل حول الأيديولوجيا، حول مدى شرعية الأجهزة التنفيذية، حول استقلال القضاء، وحتى حول مصير الأرض المحتلة.
المظاهرات ودعوات الإطاحة بالحكومة
الشارع الصهيوني بدأ يصحو من صدمة الخُرَف الأمنية والسياسية. المظاهرات ضد نتنياهو توسع نطاقها يومًا بعد يوم؛ المتظاهرون يطالبون بوقف الحرب، الذهاب نحو تفاوض، محاسبة القتلة، والإفراج عن الرهائن، لكن أيضًا بإنهاء الفساد، وإصلاح القضاء، واستعادة الحقوق التي تمّ تجريفها في ظل تحالفات يمينية متطرفة. الدعوات لرحيله لم تعد تقتصر على المعارضة البرلمانية، بل تنطلق من المواطنين العاديين، من العائلات التي خسرت أبناءها، من الشباب الذين يشعرون أنهم يُضحّون بهم من أجل بقاء شخص واحد.
كما أن الشرطة والأجهزة الأمنية تجد نفسها في موقف محرج: من جهة يجب تنفيذ قرارات الحكومة، ومن جهة أخرى يشعر البعض في هذه الأجهزة أن السياسات تخدم نتنياهو. هذا التنازع الظاهر في الشوارع والميادين يعكس أزمة ثقة عميقة. الحكومة التي تعدّ نفسها حامية أمن البلاد، باتت موضع شك، بل موضع مقاومة مدنيّة، وقد يكون التمرّد أول شرارة لسقوطها إن استمر هذا المسار.
ينبغي أن تُقرأ سياسات الكيان الصهيوني اليوم ليس كمجموعة قرارات عسكرية فحسب، بل كبرنامج سياسي ممنهج لبقاء طبقة ،استمرار العدوان ليس مجرد فشل استراتيجي، بل استثمارٌ مقصود في صناعة أزمة تستثمرها النخبة للحفاظ على نفوذها: حرب تغطي على الفساد، تبرر القمع، وتُبقي القادة في مناصبهم عبر خلق حالة خوف دائم. هذه المعادلة تنقلب على اصحابها عندما يفهم الجمهور أن دماء الجنود والمدنيين تُعامل كسلعة سياسية حينها لن يكون الحديث عن إصلاحات رمزية كافياً، بل ستبدأ مطالبات جذرية بهدم مناخ الاستعلاء . وفي هذا السيناريو، قد تكون نهاية الكيان الصهيوني الحالية ليست فقط سياسية بل تاريخية.
في النهاية، ما يجري الآن هو أكثر من حرب في غزة، العزلة الدولية هي مرآة لوهن الأخلاق، الانقسامات الداخلية مرآة لاستحالة استمرار المشروع الذي بُني على القهر والاحتلال، والمظاهرات هي صرخة لا يقبل أن يُدار من قِبل من يكرّس الجرائم باسم الأمن والسيادة. الكيان الصهيوني يقف اليوم على مفترق طرق: إما أن ينهي العدوان، يُغلق ملفات الجرائم، أو أن يُستمر في نزيفه حتى تنهار بنيته.