الوقت- في خضم تصاعد أوار التوتر في ربوع غرب آسيا واستشراء الأعمال العدوانية للكيان الصهيوني، باشرت دول المنطقة بإعادة النظر في استراتيجياتها وترتيباتها الأمنية، وفي ظل هذا المناخ المضطرب، ازدهرت المعاهدات الثنائية والمتعددة الأطراف بين دول المنطقة، ساعيةً من خلال توسيع نطاق التعاون العسكري والتنسيق الاستراتيجي، إلى تعزيز قوة الردع الفاعلة وضمان الأمن الجماعي والاستقرار الإقليمي في مواجهة الأخطار المحدقة من الخارج.
رغم أن الدول الإسلامية لم تتخذ خطوات عملية ناجعة لمجابهة اعتداءات الكيان الصهيوني خلال اجتماع الدوحة الأخير، إلا أن المقترحات التي طرحها بعض القادة المسلمين للعمل المشترك، مهّدت السبيل نحو تعزيز أواصر التعاون الأمني، وبناءً عليه، تبوأت الاتفاقيات العسكرية والاستراتيجية الثنائية والمتعددة الأطراف، والمساعي الرامية لضمان الردع والأمن الجماعي على الصعيد الإقليمي، مكانة الصدارة في سلم الأولويات.
في هذا السياق المتأزم، أضرمت المملكة العربية السعودية وباكستان أولى شعلات توسيع التعاون في المنطقة استجابةً لتهديدات الكيان الصهيوني، حيث وقّعتا اتفاقيةً أمنيةً بالغة الأهمية، جرى إبرام هذه المعاهدة يوم الأربعاء (18 سبتمبر 2024) إبان زيارة شهباز شريف رئيس وزراء باكستان إلى الرياض ولقائه بالأمير محمد بن سلمان ولي عهد المملكة.
صيغت الاتفاقية الدفاعية بين المملكة وباكستان لتعزيز الردع المشترك ضد أي عدوان، وتنص بجلاء على اعتبار أي هجوم على أي من البلدين بمثابة اعتداء على كليهما.
ورد في البيان المشترك للحكومتين السعودية والباكستانية، أن هذه المعاهدة تأتي في إطار المساعي الحثيثة لتعزيز أمن الطرفين وإرساء دعائم السلام في المنطقة والعالم، كما تهدف إلى تطوير أواصر التعاون الدفاعي بين البلدين، وتقوية منظومة الردع المشترك ضد أي اعتداء محتمل.
من أبرز محاور هذه الاتفاقية، ما يتصل بالمظلة النووية التي ستوفرها إسلام آباد للرياض. وفي هذا المضمار، أكد خواجه آصف وزير الدفاع الباكستاني على تفاصيل الاتفاقية قائلاً: “عند الاقتضاء، سيوضع البرنامج النووي الباكستاني تحت تصرف المملكة العربية السعودية وفقاً للمعاهدة الدفاعية”.
وشدّد وزير الدفاع الباكستاني على أن هذه الاتفاقية تضاهي في طبيعتها حلف الناتو، بمعنى أنه إذا تعرض أحد الطرفين للهجوم، سيهبّ الطرف الآخر لنصرته كحليف وفي، كما أعلنت وسائل الإعلام السعودية أن هذه المعاهدة المشتركة تجسّد اهتمام البلدين بتوطيد العلاقات الثنائية التاريخية، وإرساء دعائم الأمن والاستقرار والازدهار في المنطقة والعالم.
تتمتع المملكة العربية السعودية وباكستان بتاريخ عريق من التعاون الدفاعي بدأت بواكيره منذ سبعينيات القرن المنصرم، وامتدت جذوره عبر السنين ليشمل التدريب العسكري وتبادل المعلومات وتطوير القدرات القتالية للقوات المسلحة السعودية.
ومع تنامي الأخطار الإقليمية، عقد البلدان العزم على الارتقاء بتعاونهما السابق إلى مستوى أكثر رسميةً وشمولاً، هذه الاتفاقية الجديدة لا تكفل استمرار التعاون التقليدي في المجالات التدريبية والعسكرية فحسب، بل تعكس أيضاً الإرادة المشتركة للرياض وإسلام آباد لإنشاء إطار دفاعي متناغم ورادع في مواجهة الأخطار الخارجية المتربصة.
تلاشي الثقة بالضمانات الأمريكية
تمثّل المعاهدة الأمنية بين المملكة العربية السعودية وباكستان، استجابةً صريحةً للتطورات المتأججة والمعقدة في غرب آسيا، فقد أثار الهجوم الأخير للجيش الصهيوني على قطر هواجس بالغة لدى الدول العربية، وكشف مجدداً عن عجز واشنطن في صون أمن حلفائها التقليديين في الخليج الفارسي.
في ظل هذه الظروف العصيبة، يمّمت الرياض وجهها شطر باكستان، القوة النووية الوحيدة في العالم الإسلامي، لتحتمي بظلال “المظلة النووية” لهذه الدولة في مواجهة التهديدات الإسرائيلية المتربصة، وهذا التحول الاستراتيجي يحمل رسالةً جليةً إلى واشنطن مفادها بأن المملكة لم تعد تثق بالوعود الأمريكية الجوفاء، ولم تعد تكتفي بالاستناد إلى الدعم الغربي لتأمين سلامتها، بل باتت تسعى حثيثاً إلى آليات دفاعية مستقلة وضمانات ملموسة.
إن قصور أداء الولايات المتحدة في الأزمات السالفة، يشكّل الباعث الرئيس لهواجس الدول العربية. ولعل الشاهد الأبرز على ذلك هجوم اليمنيين على منشآت أرامكو النفطية عام 2019، حيث عجزت واشنطن رغم نشرها منظومات دفاعية متطورة في المملكة عن اتخاذ تدابير ناجعة لإحباط الهجوم، كما لم يلحظ أي رد عملي من الولايات المتحدة على الهجوم الأخير ضد قطر. هذا الواقع المرير أقنع العرب بأن إنفاق مليارات الدولارات على اقتناء الأسلحة وتوفير القواعد العسكرية للقوات الأمريكية، لا يضمن مساندةً حقيقيةً من واشنطن في أوقات المحن والشدائد.
وفي هذا الإطار، تمثّل المعاهدة الأمنية مع باكستان تحولاً جذرياً في سياسات الرياض الدفاعية. فالمملكة بوقوفها إلى جانب إسلام آباد تظهر أنها لم تعد تنظر إلى "إسرائيل" كحليف محتمل في المستقبل (وفقاً لآفاق اتفاقيات التطبيع)، بل تعتبرها تهديداً أمنياً من الطراز الأول لشبه الجزيرة العربية.
ورغم أن باكستان لا تملك منظومات دفاعية متطورة وأسلحة حديثة، إلا أن امتلاكها للسلاح النووي يشكّل عنصر ردع قوي في مواجهة تهديدات الكيان المحتل. وهذا التحول يعيد صياغة معادلة الردع في غرب آسيا، ويشير إلى أن المملكة وحلفاءها يسعون لبناء قوة دفاعية مستقلة وفاعلة.
الضغط السعودي على واشنطن
تمثّل هذه المعاهدة أيضاً رداً غير مباشر على سياسات واشنطن المتقلبة، فقد سعت المملكة خلال فترة رئاسة بايدن إلى إبرام اتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة للمضي قدماً في تطبيع العلاقات مع تل أبيب، لكن البيت الأبيض أحجم حتى الآن عن قبول ذلك، وأظهر تمييزاً صارخاً في التعامل مع التهديدات ضد حلفائه العرب.
لطالما استأثرت تل أبيب بنفائس الأسلحة الأمريكية وأكثرها تطوراً لاستخدامها ضد الدول العربية والإسلامية، بينما يحرم العرب حتى من الاستفادة من المعدات التي يقتنونها للذود عن أنفسهم ضد تهديدات الكيان الصهيوني.
لذلك، تضع هذه الخطوة الاستراتيجية ضغطاً نفسياً واستراتيجياً على الولايات المتحدة لإعادة النظر في توزيع الأسلحة والتعامل مع تهديدات تل أبيب وسياستها الأمنية تجاه العرب، بعبارة أخرى، تبرهن المملكة من خلال هذه المعاهدة لواشنطن أن الدعم الأمريكي المتذبذب والتمييزي لم يعد مقبولاً، وأن الدول العربية قادرة من خلال تحالفات بديلة وتنويع شركائها على قلب موازين القوى الإقليمية لمصلحتها.
تعكس هذه المعاهدة الأمنية طموح المملكة لممارسة قدر أوفر من الاستقلالية في قرارات سياستها الخارجية، ومن هذا المنظور، توجّه الرياض رسالةً صريحةً لأمريكا مفادها بأنها تتخذ قراراتها الأمنية والدفاعية بمنأى عن إملاءات واشنطن، وأنها لا تسعى إلى ضمانات أمنية أحادية المصدر، قد تكون هذه الرسالة بمثابة تذكير لطيف للولايات المتحدة بأن الخيارات الاستراتيجية للرياض، لا تتماشى بالضرورة مع أهواء واشنطن وتطلعاتها.
إعادة صياغة المنظومة الأمنية العربية
يشي هذا التحول بأن الدول العربية تجري مراجعةً جذريةً لسياساتها الأمنية، وتسعى لإرساء آليات دفاعية مستقلة، تجلت هذه التوجهات أيضاً في الاجتماع الأخير لمجلس التعاون، حيث توافق وزراء دفاع الدول الأعضاء على إجراء مناورات مشتركة بين مراكز العمليات الجوية والدفاع الجوي في الأشهر المقبلة، تعقبها مناورات جوية موسعة.
الغاية القصوى من هذه التدابير هي تحقيق تناغم أعمق في مجال التعاون العسكري، وبلورة استراتيجية موحدة تكفل الأمن المشترك لهذه الدول، وتشير هذه المساعي الجماعية أيضاً إلى ضرورة أن تعزز الدول الأعضاء قدراتها الدفاعية، من خلال توسيع نطاق تعاونها الأمني والعسكري.
لاحتواء مخاطر واعتداءات الکيان الصهيوني، يغدو تطوير التعاون الدفاعي الثنائي والمتعدد الأطراف أمراً حتمياً، حيث يعزّز هذا النهج قدرات الردع الجماعي ويوفّر إطاراً متيناً لصون السيادة الإقليمية والاستقرار الاستراتيجي للمنطقة.
ختاماً، يمكن القول إن المعاهدة الأمنية بين المملكة العربية السعودية وباكستان، تجسّد نموذجاً فريداً لإعادة صياغة الدول العربية لاستراتيجيتها الدفاعية وتقليص ارتهانها لواشنطن، لا تحمل هذه المعاهدة رسالةً قويةً للكيان الصهيوني والولايات المتحدة فحسب، بل يمكن أن تكون فاتحةً لشبكة من التعاون الدفاعي بين الدول الإسلامية، مغيرةً المعادلات الأمنية في المنطقة لصالح جبهة مناهضة الصهيونية، ومرتقيةً بالأمن الجماعي والردع الإقليمي إلى مستويات أكثر رسوخاً ومنعةً.