الوقت- منذ الإعلان عن انعقاد "المنتدى الدولي للنساء من أجل السلام" في مدينة الصويرة المغربية، تحوّل الحدث إلى محور جدل داخلي وخارجي واسع، فبينما أرادت الجهات المنظمة أن يكون المؤتمر منصة لتلاقي نساء من مختلف أنحاء العالم لمناقشة قضايا السلام والعدالة الاجتماعية، وجد المغاربة أنفسهم أمام حضور وفد إسرائيلي رسمي، الأمر الذي فجر موجة غضب عارمة في الشارع، وأثار تساؤلات حول توقيت المؤتمر ودلالاته السياسية في ظل العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة.
هذا الجدل لم يقتصر على المغرب وحده، بل امتد إلى منظمات نسائية دولية أعلنت مقاطعتها للمؤتمر احتجاجاً على مشاركة "إسرائيل"، لتتحوّل الصويرة إلى ساحة مواجهة رمزية بين خطاب "السلام المعلن" وسياسات "التطبيع المفروض".
خلفية المؤتمر وأهدافه المعلنة
المنتدى الدولي للنساء من أجل السلام هو منصة دولية تهدف، وفقاً لبياناته الرسمية، إلى تعزيز الحوار بين النساء، مناقشة قضايا المساواة والعدالة الاجتماعية، والبحث في دور النساء في بناء السلام، اختيار مدينة الصويرة لعقد هذه الدورة لم يكن عشوائياً؛ فالمدينة معروفة بتراثها الثقافي المتنوع وتاريخها في التعايش بين مكونات دينية وثقافية مختلفة، ما يجعلها رمزاً مناسباً لشعارات "التسامح والسلام".
غير أن هذا البعد الرمزي اصطدم بواقع سياسي حساس، وخصوصاً بعد أن اتضح أن الوفد الإسرائيلي سيكون حاضراً في المؤتمر، في وقت تعيش فيه غزة واحدة من أكثر مراحلها مأساوية نتيجة الحصار والتجويع والقصف المستمر.
توقيت المؤتمر ولماذا الآن؟
انعقاد المؤتمر في هذا التوقيت أثار الريبة لعدة أسباب:
التزامن مع حرب غزة: منذ أكتوبر 2023، يشن الاحتلال الإسرائيلي حرباً مدمرة على قطاع غزة خلّفت عشرات الآلاف من الشهداء، معظمهم من النساء والأطفال، وبالتالي، حضور وفد إسرائيلي في مؤتمر يتحدث باسم "السلام" بدا استفزازاً مباشراً للشعور العام في المغرب والعالم العربي.
السياق المغربي الداخلي: المغرب وقّع في ديسمبر 2020 اتفاق التطبيع مع "إسرائيل" بوساطة أمريكية، وهو اتفاق لم يحظَ بقبول شعبي، بل قوبل بمظاهرات ورفض متكرر من الأحزاب والجمعيات المدنية، المؤتمر بدا وكأنه خطوة إضافية في مسار فرض التطبيع ثقافياً واجتماعياً بعد أن تم تكريسه سياسياً.
البعد الدولي: في ظل الانتقادات الواسعة للجرائم الإسرائيلية في غزة، قد يُقرأ المؤتمر كمحاولة لإعادة تلميع صورة "إسرائيل" عبر بوابة "السلام النسوي"، ما جعل توقيته مشبوهاً لدى كثير من المراقبين.
الغضب الشعبي المغربي
منذ اليوم الأول للمؤتمر، خرجت مظاهرات واسعة في مدينة الصويرة بدعوة من جمعية الزهراء لتحالف منظمات النساء، حيث رفع المشاركون شعارات قوية مثل:
"تحية للمقاومة الفلسطينية".
"لا للتطبيع مع تل أبيب".
"لا استسلام، لا مساومة، ولا تراجع".
الاحتجاجات لم تكن محصورة في الصويرة فقط، بل شهدت أكثر من 56 مدينة مغربية تظاهرات متزامنة تحت شعار: "غزة المتروكة، والأقصى المستباح، ألا من ناصر؟"، حيث عبّر المواطنون عن رفضهم للتطبيع ونددوا بالجرائم الإسرائيلية المتمثلة في القتل الجماعي، التهجير القسري، وسياسة التجويع التي تستهدف سكان غزة.
مقاطعة الأحزاب والمنظمات المغربية
رد الفعل لم يقتصر على الشارع، بل شمل قوى سياسية ومدنية وازنة أعلنت مقاطعتها للمؤتمر، ومن أبرزها:
منظمة نساء حزب العدالة والتنمية.
جمعية الزهراء.
حركة العدل والإحسان (أكبر حركة إسلامية في المغرب).
الهيئة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع
الحملة المغربية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لـ"إسرائيل"
هذه الجهات اعتبرت أن المشاركة الإسرائيلية في مؤتمر يُعقد على الأراضي المغربية تشكل "اختراقاً خطيراً" لمسار رفض التطبيع الشعبي، ومحاولة لتبييض صورة الاحتلال في وقت يمارس فيه أبشع الجرائم بحق الفلسطينيين.
الموقف الدولي ومقاطعة منظمات نسائية
لم يقتصر الرفض على الداخل المغربي، بعض المنظمات النسائية الدولية التي كان من المفترض أن تشارك في المؤتمر أعلنت انسحابها، مبررة ذلك بأن وجود الوفد الإسرائيلي يتناقض مع القيم التي يفترض أن يدافع عنها المؤتمر، فكيف يمكن الحديث عن السلام بينما يُستضاف ممثلون عن دولة متهمة بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية في غزة؟
هذا الموقف عزز موقف المقاطعين داخل المغرب، وأعطى زخماً إضافياً للحراك الشعبي المناهض للمؤتمر.
أبعاد التطبيع الثقافي والاجتماعي
ما يثير قلق المغاربة ليس فقط التطبيع السياسي الموقع بين الرباط وتل أبيب، بل محاولات الاختراق الناعمة عبر مؤتمرات ثقافية وفنية واجتماعية تهدف إلى جعل الحضور الإسرائيلي أمراً عادياً في الفضاء العمومي.
مؤتمر الصويرة بدا مثالاً صارخاً على هذا النوع من الاختراق، حيث يتم تمرير التطبيع تحت لافتة "السلام" و"التمكين النسوي"، ما اعتبره منتقدون تضليلاً للرأي العام ومصادرة لحقوق الشعوب في تقرير مواقفها تجاه الاحتلال.
البعد الرمزي للصويرة
اختيار الصويرة تحديداً لم يكن بريئاً في نظر البعض، المدينة مشهورة بكونها مدينة التعايش الثقافي، وقد سكنها اليهود والمسلمون والمسيحيون في فترات تاريخية سابقة، استدعاء هذا البعد الرمزي أعطى المؤتمر غطاءً تاريخياً يوحي بأن المغرب أرض للتسامح، لكن هذا التوظيف الرمزي اصطدم برفض الشارع الذي يرى أن التعايش شيء، وتبييض الاحتلال شيء آخر.
ردود فعل في المنطقة المغاربية
الموجة الاحتجاجية لم تقتصر على المغرب، ففي موريتانيا، خرج مواطنون بعد صلاة الجمعة في العاصمة نواكشوط للتنديد بالجرائم الإسرائيلية والصمت الدولي، المتظاهرون هناك هتفوا بشعارات مثل:
"تحية لغزة الصامدة".
"تجويع أهل غزة جريمة حرب".
"أوقفوا الإبادة الجماعية".
كما اعتبر المحتجون أن الولايات المتحدة شريك مباشر في جرائم الاحتلال، وطالبوا بطرد السفير الأمريكي من البلاد، هذا التزامن بين المغرب وموريتانيا يعكس أن القضية الفلسطينية لا تزال حاضرة بقوة في وجدان شعوب المنطقة، وأن محاولات التطبيع لا تستطيع محو هذا الارتباط العاطفي والتاريخي.
صراع بين خطين متناقضين
مؤتمر الصويرة كشف بوضوح الصراع القائم بين خطين متناقضين:
خط رسمي يسعى لتكريس التطبيع عبر المنصات الدولية والثقافية.
خط شعبي ومدني يرفض أي شكل من أشكال التطبيع، ويرى أن القضية الفلسطينية هي معيار أخلاقي لا يمكن تجاوزه.
الانزعاج الشعبي لم يكن مجرد رد فعل عاطفي، بل موقف سياسي راسخ يعتبر أن السلام الحقيقي لا يمكن أن يمر عبر بوابة الاحتلال، وأن الحديث عن "نساء من أجل السلام" لا معنى له إذا كان يشمل ممثلات عن دولة تمارس القتل والاضطهاد بحق النساء والأطفال في فلسطين.
ختام القول
إن مؤتمر الصويرة لم يعد مجرد لقاء نسوي دولي، بل تحوّل إلى مرآة تعكس التناقض العميق في المنطقة: بين شعوب ما تزال متمسكة بمبادئ العدالة ورفض التطبيع، وأنظمة تبحث عن شرعية دولية عبر علاقات مع "إسرائيل"، والجدل الذي أثاره المؤتمر سيبقى علامة فارقة، لأنه أظهر أن الذاكرة الشعبية المغربية والعربية ما زالت عصيّة على محاولات الترويض، وأن فلسطين تظل البوصلة التي تقيس بها الشعوب صدق أي خطاب يتحدث عن السلام.
