الوقت- تشهد سوريا في سبتمبر 2025 حدثاً سياسياً يُوصف بالتاريخي، حيث تُنظم أول انتخابات برلمانية بعد سقوط نظام بشار الأسد، في ظل رئاسة أحمد الشرع للحكومة الانتقالية، هذه الانتخابات تأتي بعد أكثر من عقد من الحرب الأهلية، وانهيار بنية الدولة المركزية، وتحوّل البلاد إلى مناطق نفوذ متعددة الأطراف.
وحسب ما أعلنته اللجنة العليا للانتخابات، فإن التصويت سيجري بين الـ 15 والـ 20 من سبتمبر، لاختيار 210 أعضاء لمجلس الشعب بعد رفع العدد من 150 إلى 210، وذلك بهدف توسيع التمثيل النيابي وإعطاء فرصة أكبر للقوى السياسية والاجتماعية الناشئة للمشاركة في المرحلة الجديدة.
آلية انتخابية مثيرة للجدل
ينص النظام الانتخابي الجديد على أن أحمد الشرع سيقوم بتعيين 70 نائباً بشكل مباشر، بينما يجري اختيار 140 مقعداً عبر عملية انتخابية غير مباشرة، تعتمد على لجان انتخابية محلية تعمل وفق نظام المجالس وليس التصويت الشعبي المباشر.
هذه الآلية أثارت نقاشاً واسعاً، إذ يرى البعض أنها تضمن قدراً من الاستقرار وتمنع عودة الفوضى، بينما يعتبرها آخرون محاولة لتقييد العملية الديمقراطية الناشئة وحصرها ضمن نطاق النخب المحلية المقرّبة من السلطة الانتقالية، وفي ظل غياب التجربة الديمقراطية الفعلية طوال العقود السابقة، تبدو هذه الانتخابات خطوة أولية ضمن مسار أطول للوصول إلى برلمان منتخب بالاقتراع العام والشامل.
استبعاد ثلاث محافظات أساسية
المفاجأة الأبرز جاءت من قرار اللجنة العليا للانتخابات استبعاد ثلاث محافظات من العملية الانتخابية، وهي السويداء ذات الغالبية الدرزية، إضافة إلى الحسكة والرقة اللتين تسيطر عليهما الإدارة الذاتية الكردية، وعللت اللجنة القرار بعدم توفر "بيئة آمنة" لإجراء الانتخابات هناك، مشيرة إلى أن الأوضاع الأمنية الهشة والتوترات الطائفية والعرقية تجعل من المستحيل ضمان نزاهة الاقتراع، لكن هذا التبرير لم ينجُ من الانتقادات، إذ يرى مراقبون أن الاستبعاد يحمل في طياته أبعاداً سياسية واضحة، ويعكس رغبة السلطة الانتقالية في استبعاد أطراف مؤثرة لا تزال خارج دائرة سيطرتها المباشرة.
إقصاء الدروز والأكراد عن التمثيل
هذا القرار يعني عملياً أن مكوّنين أساسيين في المجتمع السوري قد تم إقصاؤهما من أول استحقاق برلماني بعد الأسد، فمحافظة السويداء، التي تشكّل المعقل الرئيسي للدروز، تشهد منذ سنوات حركات احتجاجية واسعة تطالب بمزيد من الحكم الذاتي، وترفض الانخراط الكامل في مشاريع السلطة المركزية، أما الحسكة والرقة فتمثلان قلب الإدارة الذاتية الكردية في شمال وشرق سوريا، التي تديرها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وحلفاؤها السياسيون، وبالتالي، فإن استبعاد هذه المناطق يُنظر إليه كضربة قاسية لفكرة الشمولية الوطنية، ويثير مخاوف من أن البرلمان المقبل لن يكون معبّراً عن جميع أطياف السوريين، بل عن تلك التي تدور في فلك السلطة الانتقالية وحلفائها.
ردود فعل متباينة
الإدارة الذاتية سارعت إلى رفض القرار ووصفت الانتخابات بأنها "إقصائية وغير شرعية"، مؤكدة أن وصف مناطقها بأنها "غير آمنة" ذريعة سياسية تهدف إلى استبعاد الأكراد وحلفائهم من المشهد الوطني، وطالبت المجتمع الدولي بعدم الاعتراف بالنتائج، معتبرة أن أي عملية ديمقراطية حقيقية يجب أن تشمل جميع المناطق السورية بلا استثناء. في المقابل، أكدت اللجنة العليا أن القرار سيادي، وأن تأجيل الانتخابات في بعض المحافظات لا يعني حرمانها بشكل دائم من التمثيل، بل يمكن أن تُترك مقاعدها شاغرة إلى حين توافر الظروف المناسبة، أو أن يجري ملؤها بطرق أخرى، سواء عبر التعيينات الرئاسية أو عبر انتخابات خاصة في وقت لاحق.
مخاوف من برلمان غير شامل
رغم محاولات التبرير الرسمية، يبقى السؤال الجوهري: أي معنى سيكون للبرلمان السوري الجديد إذا غابت عنه مكوّنات ديموغرافية أساسية مثل الدروز والأكراد؟ من الناحية الشكلية، سيتكون المجلس من 210 أعضاء يمثلون معظم المحافظات السورية، لكن من الناحية الواقعية ستظل مناطق واسعة خارج العملية السياسية. وهذا يهدد بتعميق الانقسام الداخلي بدل معالجته، إذ قد يُنظر إلى البرلمان على أنه مؤسسة تمثّل الأغلبية العربية السنية والمناطق الموالية للحكومة الانتقالية فقط، بينما تُهمّش الأقليات والجماعات التي لعبت دوراً محورياً في الحرب وما بعدها.
تأثير الاستبعاد على المسار السياسي
الانتخابات الحالية لا تقتصر أهميتها على تشكيل مجلس شعب جديد، بل تُعد خطوة ضمن المسار السياسي الأوسع الذي يُفترض أن يقود البلاد نحو دستور دائم وانتخابات عامة شاملة، غير أن استبعاد محافظات كاملة يوجّه رسالة سلبية إلى الداخل والخارج على حد سواء. فالداخل السوري بحاجة إلى تطمينات بأن جميع المكوّنات ستحظى بدور في مستقبل البلاد، والخارج يراقب ليرى ما إذا كانت سوريا تسير حقاً نحو انتقال ديمقراطي، أم إن ما يحدث ليس سوى إعادة إنتاج لنظام مركزي بواجهة جديدة.
من هنا، فإن قرار الاستبعاد قد ينعكس على الدعم الدولي للعملية الانتقالية، وربما يضعف فرص الاعتراف بالبرلمان المقبل كمؤسسة شرعية ممثلة للشعب.
المستقبل بين الفرصة والتحدي
يبقى السؤال المطروح: هل ستكون هذه الانتخابات بداية طريق طويل نحو بناء دولة ديمقراطية تمثل كل السوريين، أم إنها مجرد محطة شكلية تُستخدم لتثبيت السلطة الانتقالية وتقوية موقعها التفاوضي؟ الإجابة ستعتمد على قدرة الحكومة على إعادة النظر في قرار الاستبعاد، وفتح قنوات حوار مع المكوّنات المهمشة، وعلى مدى استعداد القوى الدولية لدعم عملية شاملة لا تُقصي أحداً، فالسوريون أنهكتهم الحرب والدمار، وما يتطلعون إليه حقاً ليس مجرد انتخابات شكلية، بل مؤسسات قادرة على جمع شمل البلاد وتحقيق العدالة السياسية والاجتماعية، وحتى يتحقق ذلك، ستظل المخاوف من برلمان ناقص التمثيل قائمة، وستبقى الشرعية السياسية موضع نقاش طويل.