الوقت- منذ ديسمبر 2023، بدأت القوات الجوية الملكية البريطانية (RAF) تنفيذ سلسلة من المهام الاستخبارية فوق قطاع غزة، هذه الرحلات انطلقت من قاعدة "أكروتيري" في قبرص، وهي قاعدة استراتيجية تُستخدم تقليدياً في عمليات بريطانية شرق المتوسط. الطائرات المستخدمة – أبرزها Shadow R1 – مزودة بأنظمة مراقبة إلكترونية وكاميرات عالية الدقة، ما يسمح لها بجمع كم هائل من البيانات عن تحركات الأفراد والمركبات والاتصالات في غزة.
الهدف المعلن من هذه العمليات كان "تحديد مواقع الرهائن الإسرائيليين" الذين احتجزتهم حركة حماس خلال حرب غزة، لكن حجم العمليات أثار الانتباه: تقارير بريطانية أكدت أن عدد الرحلات تجاوز 500 خلال أقل من أربعة أشهر، ووصل إلى أكثر من 600 بحلول أغسطس 2025، هذا الرقم الضخم يتجاوز كثيراً ما يُتوقع من مهمة إنسانية بحتة، ما أطلق نقاشاً حاداً في الأوساط السياسية والإعلامية.
الاستعانة بمقاولين أمريكيين
لم تقتصر المشاركة البريطانية على طائراتها فقط، مع تعرض بعض أسطول Shadow R1 لأعطال وصيانة، استعانت وزارة الدفاع البريطانية بمقاولين أمريكيين، أبرزهم شركة Sierra Nevada Corporation، هذه الشركة وفرت طائرات استطلاع مماثلة عملت من نفس القاعدة في قبرص.
الكشف عن هذه المشاركة لم يكن طوعياً، بل جاء بعد خطأ تقني عندما ظهرت إحدى الطائرات بوضوح على أنظمة التتبع المدني أثناء تحليقها فوق خان يونس في يوليو 2025، هذا الحادث دفع الصحافة البريطانية إلى التساؤل: هل أصبح الأمن القومي البريطاني يعتمد على شركات خاصة أجنبية لتنفيذ مهام حساسة في حرب مثيرة للجدل؟
الأهداف المعلنة مقابل التساؤلات الحقيقية
الحكومة البريطانية أكدت في بياناتها الرسمية أن المعلومات التي تجمعها الطائرات تُرسل فقط لغرض إنساني: المساعدة في إنقاذ الرهائن، غير أن هذه الحجة، رغم تكرارها، لم تُقنع المعارضة ولا كثيراً من المراقبين.
فإذا كان الهدف إنقاذ الرهائن، فلماذا استمرت الرحلات بعد تحرير معظم الرهائن الأجانب، بل حتى بعد عدم وجود رهائن بريطانيين في غزة؟ هذا السؤال كان محورياً في انتقادات شخصيات سياسية مثل جيريمي كوربين، الذي وصف استمرار المشاركة البريطانية بأنه "غير مبرر سياسياً وأخلاقياً".
البعد القانوني والأخلاقي
من الناحية القانونية، تُثير هذه المشاركة إشكاليات كبيرة، القانون الدولي الإنساني يفرض على الدول المتعاونة مع أطراف النزاع التحقق من أن المساعدة المقدمة لا تُستخدم في ارتكاب انتهاكات، إذا كانت المعلومات الاستخبارية البريطانية قد استُغلت في ضربات إسرائيلية أدت إلى قتل مدنيين، فإن لندن قد تُعتبر "شريكاً غير مباشر" في جرائم حرب.
الحكومة ردّت بالقول إن المعلومات تُشارك وفق ضوابط صارمة، وأنها "لا تستطيع التحكم الكامل في كيفية استخدام إسرائيل لها"، هذا الرد بحد ذاته يعكس المعضلة: الاعتراف بعدم القدرة على السيطرة يعني وجود احتمال واقعي بأن بريطانيا ساهمت في عمليات عسكرية مثيرة للجدل، حتى وإن لم يكن ذلك نيتها الأصلية.
التحليل السياسي – ما وراء الأهداف المعلنة
من وجهة نظري التحليلية، المشاركة البريطانية تتجاوز بكثير مسألة الرهائن، هناك أبعاد استراتيجية أعمق:
1. التحالف مع "إسرائيل" والولايات المتحدة: استمرار هذه الرحلات ينسجم مع علاقة لندن الوثيقة بواشنطن وتل أبيب، وخصوصاً في مجال الاستخبارات العسكرية.
2. إرسال رسالة إقليمية: وجود الطائرات البريطانية فوق غزة يحمل بُعداً سياسياً، إذ يُظهر أن لندن ليست متفرجة، بل طرفاً فاعلاً في الشرق الأوسط.
3. توازن داخلي: الحكومة تحاول التوفيق بين إظهار دعمها لـ"إسرائيل"، وبين خطابها الرسمي المتمسك بـ"القانون الدولي"، هذا التوازن هش ويكشف تناقضاً واضحاً.
التبعات المستقبلية
استمرار هذه العمليات قد يضع بريطانيا أمام عواقب سياسية وقانونية:
1. في الساحة الدولية: المحكمة الجنائية الدولية قد تطلب لاحقاً صوراً أو بيانات من هذه الطائرات كأدلة في تحقيقات جرائم حرب، بريطانيا عندها ستكون مضطرة للاختيار بين التزامها القانوني أو حماية تحالفها مع "إسرائيل".
2. في السياسة الداخلية: معارضة متزايدة داخل البرلمان، وخصوصاً من التيارات اليسارية والليبرالية، قد تستغل القضية لتقويض ثقة الشارع بالحكومة.
3. في الرأي العام: تزايد الغضب الشعبي ضد استمرار الحرب في غزة قد يجعل أي ارتباط استخباراتي مع "إسرائيل" عبئاً سياسياً.
في الختام، القصة البريطانية في سماء غزة ليست مجرد "رحلات إنسانية" كما تصفها الحكومة، بل هي تجسيد للتناقض بين المعلن والمخفي، الأرقام (أكثر من 600 رحلة)، والاستعانة بمقاولين أمريكيين، والاستمرار رغم انتهاء الحاجة المباشرة، كلها مؤشرات على أن الدور يتجاوز ما يُقال علناً.
من ناحية التحليل السياسي، يمكن القول إن لندن تحاول اللعب على حبلين: إظهار التزامها بالقانون الدولي أمام الرأي العام، وفي الوقت نفسه الحفاظ على شراكتها الاستراتيجية مع "إسرائيل"، لكن المشكلة أن هذا التوازن قد ينهار سريعاً إذا كُشف استخدام المعلومات البريطانية في هجمات أدت إلى سقوط مدنيين.
بريطانيا اليوم تجد نفسها في موقف حرج: فهي لا تريد أن تظهر كطرف في حرب يُتهم فيها طرف أساسي بارتكاب إبادة جماعية، لكنها في الوقت نفسه لم تنجح في عزل نفسها تماماً عن تداعيات هذا النزاع.