الوقت- في واحد من أكثر التصريحات صراحة وتأثيرًا، أطلق الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، صرخة مدوّية أمام العالم أجمع: "ما يحدث في غزة ليس مجرد أزمة إنسانية، بل أزمة أخلاقية تهز الضمير العالمي". كلمات غوتيريش لم تكن بروتوكولية ولا دبلوماسية، بل كانت صرخة ألم ويأس تعبّر عن مأساة تتجاوز أرقام الضحايا والمساعدات المحاصرة.
أطفال غزة لا يحلمون بلعبة أو مدرسة أو حتى مأوى... بل يحلمون بالجنة، فقط لأنهم يعتقدون أن فيها طعامًا. نعم، هذا هو الحضيض الذي بلغته البشرية في القرن الحادي والعشرين، وهذه هي غزة، المحاصرة، المجوّعة، التي لم تعد تكافح فقط من أجل البقاء، بل من أجل أن تُرى، أن تُسمع، أن تُحس.
"كلماتنا لا تطعم الأطفال الجوعى"
في خطاب مؤلم ألقاه عبر الفيديو خلال مشاركته في أعمال المنتدى العالمي لعفو الدولية، وضع غوتيريش العالم أمام الحقيقة العارية: "الأمم المتحدة ترفع صوتها في كل مناسبة، لكن الكلمات لا تُطعم أطفال غزة الجوعى". وأضاف بحزم: "منذ 27 مايو، سجلنا أكثر من ألف حالة وفاة بين مدنيين فلسطينيين قتلوا لا في المعارك، بل أثناء محاولتهم اليائسة للوصول إلى الغذاء. لقد ماتوا من الجوع... ماتوا من القهر... وماتوا من صمت العالم".
هذا الاعتراف القاسي لا يحمل فقط إدانة للكيان الإسرائيلي، بل يحمل في طياته إدانة للمجتمع الدولي، للعجز الجماعي، للصمت المتواطئ، وللنفاق الغربي الذي يغض الطرف عن جريمة إبادة ترتكب على مرأى ومسمع من الجميع.
غوتيريش تحدث عن الفقدان التام للرحمة، للحقيقة، وللإنسانية. "لا يمكنني تفسير مستوى اللامبالاة والانفعال الذي أراه من كثيرين في المجتمع الدولي"، قال، في اعتراف غير مسبوق يعكس حجم الإحباط الذي تعانيه حتى أعلى مؤسسة أممية في مواجهة آلة الحرب والسياسة والانحياز السافر.
وأشار إلى العاملين في منظمات الأمم المتحدة داخل غزة قائلاً: "الكثير منهم أصبحوا خاوين من الداخل، لا يشعرون بالحياة ولا حتى بالخوف من الموت. لقد أصبحت مشاعرهم مشلولة بفعل المشاهد اليومية التي لا تُحتمل".
"في الجنة هناك طعام"... الأطفال يتمنون الموت
ربما أكثر العبارات التي مزّقت القلوب في خطاب غوتيريش كانت حديثه عن أطفال غزة الذين يتمنون الذهاب إلى الجنة، لأنهم على الأقل يؤمنون بوجود الطعام هناك. هذه الجملة وحدها كافية لهزّ أعتى العروش والضمائر، لكنها على ما يبدو لم تُحرّك ساكنًا في عواصم القرار الغربي، التي تكتفي بدعوات "القلق" و"التقدير" و"الرغبة في التهدئة".
ما يحدث في غزة ليس مجرد عدوان عسكري، بل هو مشروع تجويع وتجفيف واستنزاف ممنهج للمدنيين، يستهدف كل مقومات الحياة: الغذاء، الدواء، الماء، الكهرباء، التعليم، المأوى، والكرامة.
دعا غوتيريش إلى وقف فوري ودائم لإطلاق النار، وإلى الإفراج غير المشروط عن جميع الأسرى، وإلى فتح ممرات آمنة لدخول المساعدات الإنسانية دون قيود أو عراقيل. وأكد أن "سكان غزة جميعهم يعانون الجوع. لا استثناء، لا تمييز. الجميع يواجهون شبح المجاعة. إنها كارثة من صنع الإنسان".
وشدد الأمين العام على أن الأمم المتحدة مستعدة لتوسيع عملياتها الإنسانية بشكل فوري إذا تم التوصل إلى وقف إطلاق نار، كما حدث في الهدن السابقة.
العفو الدولية.. التجويع وسلة إبادة جماعية
في بيان منفصل، قالت منظمة العفو الدولية إن ما يجري في غزة ليس فقط انتهاكًا صارخًا للقانون الإنساني الدولي، بل هو استخدام متعمّد للجوع كوسيلة حرب ووسيلة لـ"الإبادة الجماعية".
وأضافت المنظمة: "الكيان الإسرائيلي يبقي الفلسطينيين في غزة جوعى عمدًا. لقد حولت المساعدات الإنسانية إلى أداة عقاب جماعي. هذا ليس مجرد حصار. هذا تجويع ممنهج لأمة بأكملها، جريمة يجب أن تتوقف الآن".
اللجنة الدولية للإنقاذ (IRC) أعربت عن "الذعر" من التقارير المتواترة عن وفيات بين الأطفال والرضع بسبب الجوع. وقالت إن الأزمة التي تعصف بغزة "من صنع الإنسان بالكامل"، ولا علاقة لها بالكوارث الطبيعية أو بنقص في الموارد، بل هي نتيجة مباشرة للحصار المفروض، والإغلاق الكامل للمعابر، ورفض الاحتلال السماح بإدخال الوقود والمساعدات.
وطالبت اللجنة بالسماح الفوري بدخول المواد الغذائية، المياه، والوقود إلى غزة، محذرة من أن "أي تأخير إضافي سيؤدي إلى المزيد من الوفيات، خصوصًا بين الفئات الأضعف، وعلى رأسها الأطفال والرضع".
الغرب المتواطئ
في ظل هذه الكارثة الأخلاقية التي لم يعد ممكناً إنكارها، يواصل كثير من الدول الغربية ممارسة سياسة الصمت المطبق أو التواطؤ المقنّع. بينما تكتفي بعض العواصم الغربية بالتعبير عن "قلقها"، تستمر في الوقت نفسه في تزويد إسرائيل بالسلاح والغطاء السياسي.
يبدو أن حياة الأطفال الفلسطينيين في غزة لا تساوي شيئًا أمام اعتبارات التحالفات والمصالح، وهو ما وصفه غوتيريش بأنه "فقدان للإنسانية". كيف يمكن للعالم أن يسمح بتجويع شعب كامل تحت أعين طائراته وأقماره الصناعية؟ وكيف يتحول الغذاء إلى جريمة، والماء إلى خطر، والدواء إلى تهمة؟
الأطباء الأجانب الذين تمكّن بعضهم من الدخول إلى غزة نقلوا روايات مروعة عن حجم الجوع المنتشر. في إحدى شهادات الأطباء الأمريكيين، تحدث أحدهم عن طفل لم يتجاوز عامه الأول، لفظ أنفاسه الأخيرة في حضنه بسبب الجوع. "لم يكن لديه دهون تحت الجلد. كان هيكلاً عظميًا"، قال الطبيب، "لم يكن مصابًا بأي مرض، فقط لم يأكل منذ أيام".
وفي مخيمات اللجوء، تنتشر حالات فقدان الوعي بين الأطفال بسبب انخفاض السكر في الدم. تقارير الأمم المتحدة تتحدث عن انعدام الأمن الغذائي لدى 100% من سكان غزة، وهي نسبة غير مسبوقة في أي أزمة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية.
هل مات الضمير العالمي؟
منظمة العفو الدولية ختمت تقريرها بعبارة لاذعة: "على العالم أن يكسر صمته. يجب إرغام إسرائيل على احترام القانون الدولي. لا يمكن الاستمرار في استخدام الغذاء والماء كسلاح، فذلك يعني أننا فقدنا كل معايير الحضارة".
إننا أمام مرحلة فاصلة في الضمير الإنساني، حيث يُختبر العالم: هل سيبقى متفرجًا على موت الأطفال من الجوع؟ أم سيصرخ كفى؟ هل ستبقى الكلمات تُقال على المنابر، أم ستتحول إلى أفعال تنقذ الأرواح وتردع المجرمين؟
تصريحات أنطونيو غوتيريش، رغم قوتها، ليست كافية وحدها. إنها جرس إنذار، لكنه سيظل بلا جدوى ما لم تتحرك الدول، والشعوب، والمؤسسات الحقوقية، والمثقفون، والمجتمعات المدنية، لكسر هذا الحصار المميت، ولإنهاء هذه الجريمة الجماعية.
لا يمكن للعالم أن يدّعي التحضر وهو يمرّ مرور الكرام على مشهد أطفال يتمنون الموت لأنهم جوعى. هذه ليست غزة فقط، إنها مرآتنا جميعًا... مرآة القيم، والضمير، والإنسانية.