الوقت- منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر 2023، يتعرض الأطفال، ولا سيما الرضّع، لأسوأ كارثة إنسانية في العصر الحديث، لقد تحوّل الحصار الإسرائيلي من مجرد قيود على الحركة والاستيراد إلى سلاح استراتيجي يستهدف الأطفال في مهدهم، بحرمانهم من الغذاء، الدواء، والحياة، ومع استمرار القصف، وتدمير المستشفيات، ومنع دخول المساعدات، أصبح البقاء على قيد الحياة معجزة يومية لآلاف الرضّع في القطاع المحاصر.
ورغم التحذيرات المتكررة من المنظمات الدولية، لا يزال المجتمع الدولي متفرجًا، يكتفي بإحصاء الجثث، بينما تنهار منظومة الحياة في غزة، على مرأى ومسمع من العالم.
أرقام مفزعة: رضّع يموتون جوعًا وعطشًا
حسب منظمة الصحة العالمية (WHO)، يعاني أكثر من 345 ألف طفل دون سن الخامسة في غزة من خطر سوء التغذية، بينهم نحو 20 ألف رضيع مهددون بالموت بسبب انعدام الغذاء المناسب مثل الحليب الصناعي، إضافة إلى ندرة المياه الصالحة للشرب.
فيما كشفت تقارير إعلامية أن 9 من كل 10 أطفال في غزة يعانون من سوء التغذية، وأن نحو 60% من الرضع لا يحصلون على أي نوع من الرعاية الصحية المنتظمة، بسبب انهيار القطاع الصحي بالكامل.
من جانب آخر كان كل من مستشفى الشفاء ومجمع ناصر الطبي يعتمدان على ما تبقى من مولدات كهربائية لتشغيل الحاضنات، لكن بانقطاع الوقود، اضطر الأطباء إلى إخلاء الأطفال الخدّج وتركهم لمصيرهم.
وتشير تقارير طبية على أن حالات الوفاة الناتجة عن الجفاف، الإسهال، نقص الفيتامينات، والالتهابات تتصاعد، وخصوصًا في مراكز الإيواء التي باتت أشبه بمقابر جماعية للأطفال.
تدمير متعمّد للبنية الصحية: المولود محكوم بالموت
يشير تقرير منظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من 70% من المرافق الصحية في غزة خرجت عن الخدمة، ومع غياب الكهرباء، تعطل الحاضنات، وانقطاع الأدوية، بات من المستحيل إنقاذ الرضّع الذين يولدون قبل أوانهم أو أولئك الذين يحتاجون إلى تدخل طبي فوري.
وفي هذا السياق، أظهر مقطع مصور من غزة طبيبًا يصرخ: "لدينا أطفال خدّج يموتون لأننا لا نملك حليبًا طبيًا ولا أجهزة أوكسجين!"، مشيرًا إلى أن الاحتلال يمنع دخول أي شحنات تحتوي على معدات طبية خاصة بالرعاية التخصصية للأطفال.
وتؤكد مصادر من داخل وزارة الصحة في غزة أن عشرات الأطفال ماتوا في الحاضنات خلال الأشهر الماضية، بسبب انقطاع الوقود والكهرباء، وتعطّل الأجهزة الطبية.
الماء... قاتل جديد للأطفال
المياه الملوثة أصبحت أحد أبرز أسباب الموت لدى الأطفال، فحسب تقرير TRT، يعاني أكثر من 70% من سكان غزة، معظمهم من الأطفال، من الإسهال الحاد نتيجة شرب المياه غير الصالحة، ومع غياب المضادات الحيوية وانعدام النظافة في أماكن الإيواء، تحوّلت هذه الحالات البسيطة إلى تهديد قاتل.
في تصريحات لمنظمة "أنقذوا الأطفال" (Save the Children)، أشارت المنظمة إلى أن معدل الإصابة بأمراض الإسهال ارتفع بنسبة 450% مقارنة بما قبل الحرب، وأن الرضع هم الأكثر عرضة للموت نتيجة الجفاف الناتج عن هذه الأمراض.
اللقاحات: رفاهية ممنوعة
اللقاحات الأساسية التي تحمي الأطفال من أمراض قاتلة مثل الحصبة، الدفتيريا، شلل الأطفال، والتهاب الكبد الوبائي، اختفت تمامًا من القطاع منذ الأشهر الأولى للحرب، تقول منظمة الصحة العالمية إن مخزون اللقاحات نفد بالكامل بحلول يناير 2024، وإن أكثر من 200 ألف طفل لم يتلقوا أي جرعة تطعيم منذ بدء الحرب.
في ظل ذلك، تحذر WHO من احتمال تفشي أوبئة في القطاع، وخصوصًا مع تكدّس السكان في مناطق الإيواء، وغياب الصرف الصحي، ونقص المياه النظيفة.
وتشير التقارير الطبية إلى أن عدد الأطفال الذين يعانون من أعراض أمراض تنفسية وجلديّة تضاعف 3 مرات، دون أي إمكانيات طبية لعلاجهم.
الرضاعة الطبيعية غير ممكنة: أمهات جائعات وأجساد منهكة
في ظل انعدام الغذاء، تعجز الأمهات عن إرضاع أطفالهن، معظم النساء يعانين من فقر دم حاد، وهزال، ونقص حاد في السعرات الحرارية، ما يجعل إنتاج الحليب مستحيلًا.
وتتلخص معاناة الكثير من الأمهات في صرخة أم نازحة في رفح تقول: "ابني يبكي ليلًا ونهارًا، لا أستطيع إرضاعه، ولا يوجد حليب، أشعر أنني أراه يموت ببطء".
الأمم المتحدة أكدت أن 95% من الأمهات في غزة يعانين من سوء تغذية، وأن الأطفال الذين يعتمدون على الرضاعة الطبيعية يواجهون خطر المجاعة مع أمهاتهم.
تجويع ممنهج: جريمة حرب بلا عقاب
تؤكد منظمات حقوق الإنسان أن ما يحدث في غزة ليس مجرد أزمة إنسانية، بل تجويع ممنهج يرقى إلى مستوى جريمة حرب، استخدام التجويع كوسيلة للضغط على المدنيين محظور بموجب اتفاقيات جنيف.
وتشير منظمة "هيومن رايتس ووتش" إلى أن منع المساعدات الغذائية والطبية، بما فيها حليب الأطفال واللقاحات، يشكل انتهاكًا صريحًا للقانون الدولي.
ومع ذلك، لم يُتخذ أي إجراء عملي لمحاسبة الاحتلال الإسرائيلي، الذي يواصل تدمير الشاحنات وعرقلة دخول المساعدات، بحجة "مخاوف أمنية".
صمت المجتمع الدولي: شراكة في الجريمة
وسط كل هذه الانتهاكات، يلتزم المجتمع الدولي الصمت، باستثناء بيانات الإدانة الشكلية، لم يتم الضغط الجاد على حكومة الاحتلال الإسرائيلي للسماح بمرور المساعدات، كما أن الدعم العسكري الغربي لها يستمر دون قيود.
يرى مراقبون أن صمت العالم، وخاصة الدول الغربية، يجعلها شريكة في الجرائم ضد أطفال غزة، فحين يُمنح القاتل الحصانة، يتحول الجوع إلى سلاح مشروع، والموت إلى مصير محتوم.
ختام القول
في غزة، لا يُقتل الأطفال بالقنابل فقط، بل بالجوع، والعطش، والإهمال، حين يُحرم الرضيع من حليبه، وأمه من غذائها، ويُمنع اللقاح، وتُدمّر الحاضنة، يصبح الحصار أداة إبادة بطيئة لذبح الطفولة دون دماء.
إن التاريخ سيسجّل أن رضّعًا ماتوا في القرن الحادي والعشرين لأن العالم اعتبرهم "أضرارًا جانبية" في حرب بلا قلب، والمفارقة أن هؤلاء الرضع بسبب الجوع لا يملكون حتى القدرة على البكاء بصوت مسموع، فقط أجسادهم الضئيلة تصرخ في صمت: "نحن الضحايا... ولا أحد يسمع".