الوقت- تتجه الأنظار مجدداً إلى شمال سوريا، حيث تتصاعد وتيرة الانتهاكات بحق الأقليات الدينية والطائفية على يد جماعات مسلحة تسيطر على أجزاء من إدلب والمناطق المجاورة، فبعد موجة القمع التي طالت أبناء الطائفة العلوية والدروز، جاءت التقارير الأخيرة لتكشف عن استهداف جديد للطائفة المرشيدية، ما يثير تساؤلات جدية حول مستقبل التعايش الأهلي وحقوق الإنسان في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية.
في هذا السياق، أبدت الولايات المتحدة الأمريكية قلقاً بالغاً إزاء هذه التطورات، محذّرة من تداعياتها السياسية والإنسانية، ومعلنة تخوفها من احتمال سقوط حكومة الإنقاذ التي يقودها أبو محمد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام، وسط أزمات متفاقمة داخلية وخارجية.
المرشيديون: طائفة منسية في مرمى النيران
المرشيدية، وهي طائفة دينية منشقة عن العلويين، تنتشر أساساً في الساحل السوري، وخاصة في محافظتي اللاذقية وطرطوس، يُعرف أتباع هذه الطائفة بالابتعاد عن السياسة، وعدم انخراطهم في الصراعات العسكرية، وهو ما جعلهم في كثير من الأحيان ضحايا صامتين في النزاعات الطائفية.
ومع تصاعد الاحتجاجات في المناطق الشمالية التي تُسيطر عليها هيئة تحرير الشام، تفيد التقارير بأن عناصر مسلحة من الجماعة قامت بتنفيذ حملات دهم واعتقال وقتل استهدفت مدنيين من المرشيديين، بدعوى ولائهم للنظام السوري السابق أو اتهامهم بالتحريض الطائفي.
وحسب مصادر محلية، تجاوز عدد القتلى من أبناء الطائفة خلال الأسبوع الماضي العشرات، في حين تم تهجير عشرات العائلات إلى مناطق أكثر أمناً، وسط صمت رسمي من حكومة الإنقاذ، ما زاد من حدة الغضب الشعبي.
المجتمع الدولي يتحرك بحذر: بيانات إدانة بلا إجراءات حاسمة
الولايات المتحدة الأمريكية كانت من أوائل الأطراف الدولية التي علّقت على هذه الأحداث، فقد عبّر دانيال روبينشتاين، المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، عن قلق واشنطن العميق إزاء تقارير "القتل الممنهج والاعتقالات التعسفية بحق أبناء طوائف سوريا بأكملها، بما فيها العلويون والدروز والمرشيديون".
وأكد روبينشتاين في اجتماع مع مسؤولين من المعارضة السورية أن "الولايات المتحدة تراقب عن كثب التطورات في شمال سوريا، وتدعو إلى الوقف الفوري لهذه الانتهاكات، وحماية المدنيين بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية أو المذهبية".
في الوقت ذاته، أصدر مجلس الأمن الدولي بياناً مشتركاً بالتعاون مع كل من الولايات المتحدة وروسيا، أدان فيه بشدة "الاعتداءات الطائفية"، ودعا إلى احترام القانون الدولي الإنساني، والحفاظ على وحدة سوريا وسلامة نسيجها الاجتماعي، كما شدد البيان على ضرورة "تنفيذ القرار 2254" المتعلق بالحل السياسي للأزمة السورية.
حكومة الجولاني: مأزق داخلي واتهامات متزايدة
حكومة الإنقاذ، التي تُعد الواجهة المدنية لهيئة تحرير الشام، تجد نفسها الآن في أضعف مراحلها السياسية منذ تأسيسها، فقد تراجعت شعبيتها بشكل كبير بسبب تدهور الأوضاع المعيشية، وارتفاع الأسعار، وتضييق الحريات، ناهيك عن استغلال الطائفية لقمع المعارضين.
يحاول أبو محمد الجولاني تدارك الوضع من خلال إطلاق تصريحات تطمينيه، واعداً بتحقيق العدالة ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، لكن مراقبين يرون في هذه التصريحات "محاولة لامتصاص الغضب المحلي والدولي" لا أكثر، ويشككون في جدية أي تحقيقات تُجرى تحت إشراف جماعته.
إضافة إلى ذلك، تواجه الهيئة ضغوطاً من فصائل أخرى في شمال سوريا، تسعى إلى تقويض نفوذها، وهو ما يجعل الساحة مفتوحة على احتمالات صراع داخلي قد ينتهي بانهيار حكومة الإنقاذ أو تفكك الهيئة نفسها.
تضييق الخناق على الحريات العامة
إلى جانب الانتهاكات الطائفية، تعاني مناطق سيطرة حكومة الإنقاذ من تدهور واضح في أوضاع الحريات العامة وحقوق الإنسان ،فقد شهدت الأسابيع الأخيرة إغلاق عدد من المنتديات الثقافية والمراكز المجتمعية، ومنع فعاليات شبابية وإعلامية مستقلة، واعتقال عدد من النشطاء والصحفيين المحليين بتهم "التحريض" أو "التعامل مع جهات خارجية"، هذا المناخ من الرقابة والقمع أفضى إلى حالة من الخوف والصمت الشعبي، وسط تحذيرات من أن استمرار هذه السياسات قد يؤدي إلى عزلة مجتمعية وانفجار اجتماعي يصعب احتواؤه لاحقاً.
إلى أين يتجه شمال سوريا؟
من الناحية الحقوقية، ما يجري في شمال سوريا يمكن أن يُدرج تحت بند جرائم ضد الإنسانية، وخصوصاً أن عمليات القتل والاستهداف تتم على خلفية الانتماء الديني أو الطائفي، ويشير مختصون في القانون الدولي إلى أن هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم، وقد تفتح الباب مستقبلاً أمام ملاحقات قانونية في المحاكم الدولية.
أما من الناحية السياسية، فإن القلق الأمريكي يعكس خشية استراتيجية من تفكك بنية المعارضة المسلحة في الشمال السوري، وخاصة مع تصاعد التوترات الداخلية وتراجع السيطرة الميدانية لبعض الفصائل، فواشنطن تدرك أن أي فراغ في السلطة أو انزلاق نحو صراع داخلي بين الفصائل قد يؤدي إلى فوضى أمنية، ويفتح المجال أمام عودة الجماعات المتطرفة أو انهيار الإدارة المحلية، ما يُهدد الاستقرار الهش في المنطقة.
في النهاية يمكن القول إن الوضع الإنساني والحقوقي في شمال سوريا لم يعد يحتمل مزيداً من الصمت أو التجاهل، وعلى المجتمع الدولي أن يتجاوز مرحلة "الإدانة" نحو خطوات عملية تضمن حماية الأقليات، وتفرض عقوبات على منتهكي حقوق الإنسان، وتدفع نحو مسار سياسي شامل يضمن تمثيل جميع مكونات الشعب السوري.
وحتى ذلك الحين، ستظل الطوائف المنسية كالمرشيدية تدفع ثمن نزاع لا ناقة لها فيه ولا جمل، ضحايا لصراعات القوة والسلطة، في بلد مزقته الحرب، وأرهقته الطائفية.