الوقت- منذ عقود يعاني قطاع غزة من حصار إسرائيلي خانق حوّله إلى أكبر سجن مفتوح في العالم، ولكن ما يجري في القطاع منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى اليوم تخطّى حدود الحصار التقليدي إلى سياسة تجويع ممنهجة ومعلنة، لا يمكن وصفها إلا بأنها سلاح إبادة بطيئة تستهدف المدنيين العزل، وتحديداً الأطفال الذين يموتون جوعاً واحداً تلو الآخر.
ففي الوقت الذي تركز فيه وسائل الإعلام على القصف المتواصل والمجازر اليومية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي، يتسلل الجوع ببطء، لكنه بثبات، إلى أجساد سكان غزة، وخصوصاً الأطفال، ليحصد أرواحهم في صمت، ومن لم تقتله القذائف أو قنابل الفوسفور الأبيض، يُقتل اليوم جوعاً أو عطشاً أو نتيجة مضاعفات سوء التغذية ونقص العلاج.
القصف والتجويع وجهان لعملة واحدة
ليست المجاعة في غزة كارثة طبيعية ولا نتيجة أزمة اقتصادية محلية، بل هي جريمة حرب موثقة الأركان والأدلة، الاحتلال الإسرائيلي، بقيادة بنيامين نتنياهو، لم يكتفِ بالقصف العشوائي للمنازل والمدارس والمستشفيات، بل وسّع نطاق عدوانه ليشمل مصادر الحياة الأساسية: الغذاء والماء والعلاج.
فمنذ بداية الحرب، دأب الجيش الإسرائيلي على استهداف المخابز ومحطات تحلية المياه والمستودعات الغذائية ومخازن الأدوية، كما عمد إلى إغلاق جميع المعابر، مانعاً دخول آلاف شاحنات الإغاثة، في سياسة هدفها الواضح ترك سكان غزة للموت جوعاً أو عطشاً، وخاصة في المناطق الشمالية المحاصرة منذ شهور.
تقول منظمات الإغاثة الدولية إن ما يحدث في غزة ليس مجرد فوضى لوجستية أو أزمة مؤقتة، بل عملية "تجويع مصممة سياسياً" كما صرّح المفوض العام لوكالة الأونروا، فيليبي لازاريني، هذه الكلمات لم تعد مجازاً، بل حقيقةً يعيشها الملايين يومياً، ويعاني منها الأطفال قبل غيرهم.
أرقام تقشعر لها الأبدان
وفقاً لأحدث البيانات التي نشرتها قناة الجزيرة، فإن أكثر من 2.4 مليون إنسان في قطاع غزة يواجهون خطر الموت جوعاً، بينهم أكثر من مليون طفل، يعانون من نقص يومي في الطعام والماء والمأوى والخدمات الصحية، وقد أُصيب حتى الآن نحو 65 ألف شخص بسوء تغذية حاد، نقلوا إلى ما تبقى من مستشفيات متهالكة أو مراكز طبية مدمّرة.
في واحدة من أكثر الصور المؤلمة للحرب، لفظ خمسون طفلاً أنفاسهم الأخيرة بسبب الجوع، وكان آخرهم عدي فادي أحمد، الذي مات في مستشفى الأقصى بدير البلح، وهو يئن جوعاً في حضن والدته التي لم تجد له حليباً ولا خبزاً.
أما اليونيسيف، فقد حذّرت منذ أسبوعين من أن 335 ألف طفل تحت سن الخامسة على وشك الموت جوعاً، أي إن جميع أطفال غزة من هذه الفئة العمرية، يواجهون خطر الموت الوشيك نتيجة سوء التغذية الحاد.
وتظهر الأرقام المفزعة أيضاً أن 92% من الرضع بين عمر 6 أشهر وسنتين، لا يحصلون على الحد الأدنى من احتياجاتهم الغذائية الأساسية، كما أن 65% من سكان غزة محرومون من مياه نظيفة للشرب أو الطهي، ما يفاقم معاناة سوء التغذية، ويزيد من خطر تفشي الأمراض والأوبئة.
"الأونروا": لم يعد لدينا ما نوزعه
في الوقت الذي تعتمد فيه غالبية سكان غزة على المساعدات الإنسانية كمصدر وحيد للبقاء، أعلنت وكالة الأونروا أنها باتت عاجزة عن تقديم أي مساعدات، وقال عدنان أبو حسنة، المستشار الإعلامي للأونروا: "نحن نشهد اليوم انهياراً كاملاً للوضع الإنساني، لا يوجد ما نوزعه، آلاف العائلات لا تجد ما تأكله، والوضع مقبل على مجاعة حقيقية".
وقد حذرت الأمم المتحدة منذ مارس/آذار الماضي من أن كل تأخير إضافي في إدخال المساعدات سيعني المزيد من الوفيات بين الأطفال والنساء وكبار السن، مؤكدة أن سياسة التجويع باتت استراتيجية عسكرية تستخدمها "إسرائيل" لفرض الاستسلام على الفلسطينيين.
كما طالبت منظمة "أوكسفام"، إلى جانب عشرات المنظمات الدولية، بفتح المعابر فوراً وتسهيل وصول المساعدات، محذرة من كارثة إنسانية واسعة النطاق قد لا يمكن تداركها.
تجويع ممنهج بتوقيع أمريكي
المأساة الكبرى لا تكمن فقط في الجريمة بحد ذاتها، بل في التواطؤ الدولي والصمت المريب، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، فبينما يتواصل القتل بالقصف والتجويع، لم تُمارس أي ضغوط حقيقية على "إسرائيل" لوقف حصارها الغذائي، بل استمر تبرير جرائمها تحت لافتة "الدفاع عن النفس".
الولايات المتحدة لم تُدان فقط بتسليح الجيش الإسرائيلي، بل أيضاً عبر مشاركتها في منع دخول بعض المساعدات، والتغاضي عن استهداف القوافل الإنسانية ومراكز توزيع الغذاء، حتى بعد تحذيرات وزراء خارجية فرنسا وبريطانيا وألمانيا من خطر المجاعة الوشيك، لم تحرّك واشنطن ساكناً.
بل إن بعض التقارير تشير إلى أن شحنات غذائية كاملة تبرعت بها منظمات غير حكومية أمريكية تم منعها من الوصول إلى القطاع، بذريعة أن الأوضاع الأمنية لا تسمح، في الوقت ذاته، لا يجد الجنود الإسرائيليون أدنى حرج في تصوير أنفسهم وهم ينهبون الطعام من مستودعات الغزيين أو يحرقون الشاحنات القادمة من رفح.
مجزرة أطفال بطيئة
ما يجري اليوم في غزة ليس فقط انتهاكاً للقانون الإنساني الدولي، بل جريمة تطهير جماعي باستخدام الجوع كسلاح، فالأطفال، وهم الأكثر ضعفاً، يُحرمون من الحليب، ومن غذاء النمو، ومن مياه الشرب، ويُتركون ليموتوا على مرأى ومسمع العالم.
أحد الأطباء المحليين في مستشفى الشفاء قال في تصريح لإحدى القنوات: "ما نراه ليس طباً، بل هو حضور يومي للموت، تصلنا أجساد أطفال ناحلة، ينهار القلب لمجرد رؤيتهم، لا يمكننا إنقاذهم لأننا لا نملك الحليب ولا المغذيات ولا الكهرباء لتشغيل الحاضنات، نحن فقط نحضنهم في لحظاتهم الأخيرة".
وتشير تقارير اليونيسيف إلى أن سوء التغذية في سن مبكرة يؤثر على الدماغ والعظام والمناعة، ما يعني أن الناجين من هذه المجاعة سيعانون من آثار صحية وعقلية مدى الحياة، وسيحملون في أجسادهم توقيع جريمة لم يُعاقب مرتكبوها بعد.
الغذاء كساحة معركة
من المثير للأسى أن تكون شاحنة دقيق هي أقصى ما يمكن أن يتمناه سكان قطاع غزة اليوم، في ظل انعدام الأمن الغذائي التام، أصبحت المساعدات الغذائية عملة نادرة، تقاتل العائلات من أجل الحصول على وجبة واحدة، ولو كانت غير صالحة للاستهلاك.
حتى تلك الشحنات التي نجحت في الوصول، إما أُحرقت أو نُهبت أو صودرت من قبل الجيش الإسرائيلي، كما وثّقت منظمات حقوقية، أو وصلت إلى مناطق محدودة فقط في جنوب القطاع، بينما ظل الشمال تحت الحصار الكامل.
ما الذي بقي من الإنسانية؟
إن ما يجري في غزة اليوم يتجاوز حدود السياسة والاصطفافات الدولية، ليطرح سؤالاً عميقاً عن جوهر الإنسانية، حين يموت الأطفال جوعاً في عصر الوفرة الغذائية، وعندما تُغلق المعابر أمام أكياس الدقيق، وتُصادر شاحنات المياه، بينما يواصل العالم صمته... فماذا تبقى من القيم الدولية والضمير الإنساني؟
المجاعة في غزة ليست قضاءً وقدراً، بل قرار سياسي وعسكري واضح، يهدف إلى تركيع شعب بأكمله عبر سلبه أبسط حقوق الحياة، والتاريخ لن ينسى من سكت عن هذه الجريمة، كما لن يغفر لمن شارك فيها، سواء بالفعل أو بالصمت.
آن الأوان للعالم، حكومات ومنظمات وشعوباً، أن يصرخ في وجه هذا الظلم، آن الأوان أن تُفتح المعابر، أن تُرفع الأصوات، وأن تُستعاد الكرامة، فالجوع ليس فقط قاتلاً، بل فضيحة أخلاقية في سجل العالم الحديث.