الوقت- تُقدَّم الولايات المتحدة دائمًا كمنارةٍ لحرية التعبير وحقوق الإنسان، وهي التي لا تتردد في توجيه الانتقادات للأنظمة الأخرى بحجة قمع المعارضين والتضييق على الحريات، لكن في كل مرة يُختبر فيها هذا الادعاء على أرض الواقع، يظهر زيفه بوضوح، كما حدث في اعتقال الطالب الفلسطيني محمود خليل بقرار مباشر من إدارة دونالد ترامب، فهذه الإجراءات ليست مجرد اعتقالٍ فردي، بل تعكس نهجًا متصاعدًا لقمع الأصوات المعارضة للسياسات الأمريكية، وخاصة إذا تعلقت بالقضية الفلسطينية.
قمع الاحتجاجات والتضييق على الطلاب
منذ اندلاع الاحتجاجات في الجامعات الأمريكية تنديدًا بالحرب الإسرائيلية على غزة، تعاملت السلطات بيدٍ من حديد مع الطلاب المحتجين، اعتقال محمود خليل ليس سوى البداية، وفقًا لتهديدات ترامب، حيث توعد بمزيد من الاعتقالات والترحيل، بحجة "التطرف" والارتباط بحماس، لكن هل صار التعاطف مع الفلسطينيين جريمة في بلدٍ يدّعي حماية الحريات؟
الأمر لا يتوقف عند الاعتقالات، بل يشمل أيضًا محاولات أخرى لإلغاء تأشيرات الطلاب الأجانب المشاركين في الاحتجاجات، كما حدث مع طالبٍ آخر لم يُكشف عن هويته بعد إبلاغه بإلغاء تأشيرته دون سبب واضح. هذه التصرفات تعكس ازدواجية صارخة: ففي حين تروج أمريكا لحرية التعبير كجزء أساسي من ثقافتها، فإنها في الواقع تخنق الأصوات التي تتعارض مع سياساتها الخارجية.
التناقض الصارخ مع المبادئ الأمريكية
لطالما انتقدت الولايات المتحدة الدول الأخرى بسبب انتهاكاتها لحرية التعبير وحقوق الإنسان، لكنها لا تتسامح حتى مع احتجاجات سلمية داخل جامعاتها، حين يتعلق الأمر بانتقاد "إسرائيل" أو دعم القضية الفلسطينية، تصبح حرية التعبير فجأةً تهديدًا للأمن القومي، ويتحول المحتجون إلى "متطرفين" يجب اعتقالهم وترحيلهم.
هذا السلوك يعكس ضعفًا بنيويًا داخل النظام الأمريكي، الذي يخشى حتى من طالب يعبر عن رأيه بشأن الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون، كيف يمكن لدولة تدّعي أنها "أقوى ديمقراطية في العالم" أن تخشى احتجاجات طلابية؟ لماذا تُعامل الجامعات وكأنها ساحات أمنية بدلًا من أن تكون فضاءات للنقاش الحر؟ هذه التناقضات تضعف مصداقية أمريكا على الساحة الدولية، حيث بات واضحًا أنها لا تؤمن بالحريات إلا عندما تخدم مصالحها.
أمريكا تفضح نفسها أمام العالم
ليس هذا القمع سوى انعكاسٍ لحالة الهلع التي تعيشها الإدارة الأمريكية عندما تُرفع الأصوات ضد سياساتها المنحازة لـ"إسرائيل"، إنهم يعرفون جيدًا أن عدالة القضية الفلسطينية أصبحت أمرًا لا يمكن إخفاؤه، وأن دعمهم للعدوان الإسرائيلي لم يعد يُقابل بالصمت، لذلك، يلجؤون إلى استخدام الأدوات الأمنية للقضاء على أي تعبير عن التضامن مع الفلسطينيين، لكن في النهاية، هل تستطيع أمريكا اعتقال كل صوت حر؟ هل يمكنها ترحيل كل من يرفض التواطؤ مع الاحتلال؟
الولايات المتحدة تُظهر اليوم خوفها وضعفها الحقيقي؛ فدولة تدّعي أنها زعيمة العالم الحر، لكنها ترتعد من طالب جامعي، هي دولة لا تستحق هذا اللقب، لا يمكن إخفاء الجرائم الإسرائيلية إلى الأبد، ولا يمكن إسكات أصوات الشباب المطالبين بالعدالة، إذا كان مجرد الاحتجاج ضد القتل الجماعي يُعتبر "إرهابًا"، فهذه ليست ديمقراطية، بل ديكتاتورية ترتدي قناع الحرية.
القمع كاستراتيجية لترسيخ الهيمنة
ما تفعله إدارة ترامب ليس مجرد تصرف فردي أو موقف سياسي مؤقت، بل هو جزء من استراتيجية أوسع لقمع أي خطاب يتحدى الهيمنة الأمريكية والصهيونية على الساحة العالمية، يتم تصوير أي صوت يناصر فلسطين على أنه "إرهابي"، في محاولة واضحة لشيطنة القضية الفلسطينية وتجريم التعاطف معها، هذه الاستراتيجية لا تستهدف فقط الفلسطينيين أو العرب، بل تمتد إلى أي أمريكي يجرؤ على انتقاد "إسرائيل" أو دعم العدالة.
لقد أصبح واضحًا أن الولايات المتحدة لا تتسامح مع أي مقاومة فكرية أو احتجاج سلمي يتحدى مصالحها أو مصالح حلفائها، وعندما تعجز عن مجابهة الحجج بالحجج، تلجأ إلى القمع والترهيب والاعتقالات، هذا الأسلوب يكشف عن حالة ضعف، وليس قوة، فالدول الواثقة من شرعيتها لا تخشى أصوات المعارضة، ولا تحتاج إلى تحويل الجامعات إلى ساحات للصراع الأمني، لكن ما لا تدركه إدارة ترامب ومن يدعمونها أن هذه الممارسات لا تسكت الأصوات الحرة، بل تزيدها صلابة وإصرارًا، فكل طالب يُعتقل، وكل تأشيرة تُلغى، وكل محاولة لإسكات الحقيقة، تؤدي إلى نتيجة واحدة: تعرية النظام الأمريكي وكشف زيفه أمام العالم بأسره.
"إسرائيل" خط أحمر في ديمقراطية زائفة
أمريكا التي تسمح للمواطنين بحمل السلاح في الأماكن العامة تحت شعار الحقوق الدستورية، هي نفسها التي تعتقل طالبًا لمجرد أنه عبّر عن رفضه لجرائم الحرب في غزة، لكن الفارق الوحيد هنا هو أن "إسرائيل" هي المعنية، وهنا تسقط كل الأقنعة عن الديمقراطية الأمريكية، فالحديث عن أي قضية داخلية أمريكية قد يُعتبر "حرية رأي"، لكن مجرد التشكيك في ممارسات الاحتلال الإسرائيلي يصبح جريمة لا تُغتفر.
"إسرائيل" ليست مجرد دولة حليفة لأمريكا، بل هي خط أحمر تحميه المؤسسات السياسية والأمنية والإعلامية بوحشية، وهذا يفسر لماذا يتم تصوير أي انتقاد لها على أنه "معاداة للسامية"، ولماذا يتم التعامل مع المحتجين ضد مجازرها وكأنهم تهديد وجودي، ولكن هل يمكن لهذا القمع أن يغير الحقائق؟ هل يمكنه أن يُخفي الإبادة الجماعية التي تُبث يوميًا على شاشات العالم؟
ما يحدث اليوم ليس فقط انتهاكًا لحقوق الطلاب، بل هو إعلان صريح بأن أمريكا لم تعد حتى قادرة على التظاهر بأنها دولة تحترم الحريات، عندما يصبح دعم فلسطين جريمة، فهذا يعني أن النظام الأمريكي لم يعد يخشى فقط الاحتجاجات، بل يخشى الحقيقة ذاتها.
الحرية في أمريكا.. حق للجميع إلا إذا كنت مؤيدًا لفلسطين
ما تكشفه هذه الأحداث ليس مجرد تناقض في السياسة الأمريكية، بل انهيار كامل للصورة التي حاولت واشنطن رسمها لنفسها على مدار عقود، فأمريكا لم تكن يومًا وطنًا للحريات كما تزعم، بل دولة تُكيّف مبادئها وفقًا لمصالحها، تدافع عن حرية التعبير حين تخدم أجندتها، لكنها تمارس القمع بأبشع صوره عندما يُرفع الصوت ضد حلفائها، اعتقال محمود خليل ليس مجرد حادثة معزولة، بل دليل على أن أمريكا لا تحتمل فكرة أن أحدًا قد يجرؤ على تحدي سرديتها، فحين يصبح التعاطف مع فلسطين جريمة، والاحتجاج على المذابح "إرهابًا"، فهذا يعني أن النظام الأمريكي قد وصل إلى مرحلة من الهشاشة الفكرية والسياسية تجعله عاجزًا حتى عن مجابهة الأفكار، لكن المشكلة الحقيقية ليست فقط في هذا القمع، بل في أن العالم بات أكثر وعيًا من أي وقت مضى، فالإعلام لم يعد حكرًا على الحكومات، والحقيقة لم تعد حبيسة الروايات الرسمية، وكلما زاد القمع، كلما زاد إصرار الأحرار على كشفه، لم يعد بإمكان أمريكا إخفاء تناقضاتها، ولم يعد بإمكانها إسكات الجميع، لقد خسرت واشنطن أهم ما كانت تملكه: قدرتها على خداع العالم.
في النهاية يكشف اعتقال محمود خليل وحملة القمع ضد الطلاب المؤيدين لفلسطين عن واقع مخيف في الولايات المتحدة: حرية التعبير هناك ليست حقًا مطلقًا، بل امتيازٌ يُمنح وفقًا للولاءات السياسية، هذا النهج لا يُضعف فقط صورة أمريكا عالميًا، بل يُظهر أنها باتت عاجزة عن تحمل حتى مجرد أصواتٍ طلابية ترفض الظلم، ما حدث في جامعة كولومبيا هو دليل آخر على أن أمريكا، التي تُصدِّر خطاب الحرية، ليست مستعدة لاحتمال الحقيقة عندما تكون على الطرف الآخر من المعادلة، الحرية الحقيقية لا تختبر بالكلمات، بل بالأفعال، وأمريكا اليوم تُظهر للعالم أن شعارها عن حرية التعبير ليس سوى كذبة مفضوحة.