الوقت- في هذه الأيام، تتكرر التجربة التاريخية والقاسية لبلد وأمة تتحول لسلعة مصالحة في لعبة القوى العظمى بشكل واضح تماما بالنسبة لأوكرانيا.
أمام أعين الأوكرانيين المذهولة والقلقة، عقد دبلوماسيون روس وأمريكيون يوم الثلاثاء الماضي أولى المحادثات وجهاً لوجه منذ بدء الحرب، وبعد أربع ساعات من المفاوضات، اتفق الجانبان على تشكيل فريق لإنهاء الحرب، كما تم الاتفاق على أن تعيد موسكو وواشنطن العلاقات الدبلوماسية، ومن المقرر أن يلتقي بوتين وترامب في الأيام ذاتها في السعودية دون حضور زيلينسكي لتقسيم الكعكة الأوكرانية.
لقد أصبح من الواضح للجميع منذ فترة طويلة أن أوكرانيا أصبحت لعبة وطعماً للغرب ضد روسيا، مع تغير نبرة الغرب بشأن انضمام كييف إلى حلف شمال الأطلسي والحاجة إلى فتح الباب للمفاوضات مع موسكو - في ظل فقدان 20 في المئة من أراضي البلاد - وهذه ليست قضية جديدة.
وقد قيل مرارا وتكرارا كيف أن الحكومة الأوكرانية، بمساعدة الحبل الفاسد من الغرب، ذهبت إلى أقصى التحدي، وهددت الخطوط الحمراء لأمن روسيا.
ولكن ما لم يكن بوسع الكثير من الناس أن يتوقعوه هذه الأيام هو أن حلفاء أوكرانيا الاستراتيجيين على ما يبدو سوف يرغبون في التفاوض مع روسيا بشأن مصير البلاد، حتى من دون وجود كييف أو دورها الضئيل، وهذا يُذكرنا تماماً بما قرأناه في كتب التاريخ عن التقسيم التعسفي للموارد والأراضي على طاولة زعماء الدول الاستعمارية والحدود المتغيرة للمستعمرات في آسيا وأفريقيا ومناطق أخرى.
وبغض النظر عن المناقشات والجدالات حول ما إذا كانت عواقب وجود شخص عديم الخبرة على رأس السلطة في عالم السياسة والعلاقات الدولية أكثر تأثيراً في جر أوكرانيا إلى هذا الوضع المزري أو الضرورة الجيوسياسية للوقوف على خط صدع أمني نشط بين الغرب وروسيا، فإن العرض العلني وغير المقنع للخيانة الغربية لحلفائها وتجاهل جميع قواعد التحالف والتزاماته من أجل تحقيق مصالحهم الخاصة أصبح في هذه الأيام مثيراً للدهشة في خطابات ومواقف دونالد ترامب.
ولم يتخل ترامب عن أوكرانيا في الحرب فحسب، بل إنه يتحدث حتى عن ضرورة الاستيلاء على مناجم البلاد ومواردها الطبيعية تعويضًا عن المساعدات العسكرية السابقة لكييف.
تلاسن ترامب وزيلينسكي في وسائل الإعلام
وقال ترامب في مقابلة مع إذاعة فوكس نيوز يوم الجمعة: "لقد كنت أشاهد هذا الرجل منذ سنوات، مدنه تُدمر، وشعبه وجنوده يُبادون، وليس لديه أي ورقة مهمة في المفاوضات، وأنا تعبت من هذا الوضع".
ودافع أيضا عن عدم دعوة زيلينسكي إلى السعودية، وقال مع إنه لو أراد بوتين لكان بإمكانه الاستيلاء على كل أوكرانيا في يوم واحد، ولكن روسيا ترفض التحدث مع زيلينسكي.
وكان الرئيس الأمريكي قد وصف نظيره الأوكراني في مكان آخر بأنه "ديكتاتور غير منتخب" يحظى بدعم شعبي بنسبة 4% فقط، وتحدث عن ضرورة تنحيه عن منصبه.
وكان من المقرر أن تنتهي ولاية زيلينسكي الممتدة لخمس سنوات في مايو/أيار 2024، لكن الانتخابات تم تعليقها بعد أن أعلنت الحكومة الأحكام العرفية.
وجاء الهجوم القاسي الأخير من جانب ترامب على زيلينسكي بعد أن تحدث الزعيم الأوكراني عن عدم قبول نتائج المحادثات الروسية الأمريكية دون حضور كييف، وقال زيلينسكي: إن ترامب يقع في فخ التضليل الروسي، وزعم أن أوكرانيا والدول الأوروبية يجب أن تكون ممثلة في محادثات الرياض.
وفي اليوم التالي لتصريحات زيلينسكي، شن ترامب هجوما لاذعا على الزعيم الأوكراني في خطاب ألقاه في قمة معهد الاستثمار المستقبلي المدعومة من السعودية في ميامي، متهما إياه بنهب 350 مليار دولار من الأموال الأمريكية وإغراق بلاده في صراع لا نهاية له.
وقال إن الولايات المتحدة أنفقت من حيث الميزانية 200 مليار دولار أكثر من أوروبا، في حين أن هذه الحرب لا علاقة لها بالولايات المتحدة، ويجب على أوكرانيا إعادة 500 مليار دولار إلى الولايات المتحدة من خلال تسليم "المعادن النادرة" وكل ما يمكن استغلاله.
ويأتي هذا في حين تقدر بعض مؤسسات الأبحاث المستقلة، مثل معهد كيل للاقتصاد العالمي، حجم المساعدات الأمريكية لأوكرانيا بأقل من 350 مليار دولار، وذكر المعهد نقلا عن الجزيرة أنه اعتبارا من ديسمبر/كانون الأول 2024، أرسلت الدول الأوروبية نحو 138 مليار دولار من المساعدات المالية والعسكرية إلى أوكرانيا، وأرسلت الولايات المتحدة نحو 120 مليار دولار.
كما أنه وفقا لإحصائيات على الموقع الرسمي للحكومة الأمريكية تحت عنوان "سجل المساعدات المرسلة إلى أوكرانيا"، فإن حجم المساعدات الأمريكية إلى كييف حتى الـ 30 من سبتمبر 2024 بلغ 183 مليار دولار.
وقال زيلينسكي في مقابلة مع وكالة أسوشيتد برس في الـ 11 من فبراير/شباط: إن نحو 70 مليار دولار من المساعدات العسكرية تم تسليمها إلى أوكرانيا، وتم إيداع 6 مليارات دولار أخرى في شكل أشياء مثل برامج التعليم والمساعدات الإنسانية والتعافي الاقتصادي والبنية التحتية، وقال: إن بقية المساعدات التي وافق عليها الكونجرس الأمريكي لم تصل إلى أوكرانيا أبدًا.
الثقة الموجودة والمفقودة دمرت أوكرانيا
إن الطعنة في الظهر من قبل أمريكا أجبرت زيلينسكي، الذي تعهد بالفعل بإعادة 20 في المئة من أراضي بلاده المفقودة، على الاعتراف رسميًا بالهيمنة الأمريكية الواضحة على الشؤون السياسية والسيادية للبلاد والتحدث عن استعداده للتنحي عن منصبه بشرط ضمان أمن أوكرانيا في المستقبل.
والآن فقدت الحكومة الأوكرانية، التي دخلت هذه المعركة بتشجيع من التحالف مع الغرب وأمريكا، 20% من أراضيها لمصلحة روسيا، وتعاني من اقتصاد مدمر، وعانت من عشرات الآلاف من القتلى وملايين الجرحى والنازحين.
وقال زيلينسكي في وقت سابق من الشهر الجاري إن أكثر من 46 ألف جندي أوكراني قتلوا منذ بدء الحرب في فبراير/شباط 2022، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من المدنيين.
وثانياً، يتعين عليها أيضاً أن تعترف بالشروط المهينة المترتبة على منح امتياز تعدين بقيمة 500 مليار دولار للغرب وفقدان الاستقلال السيادي، ولا يوجد حتى الآن أي ضمان لأمنها في المستقبل، وهو وضع لم يكن من الممكن حتى لأكثر النظرات تشاؤما بشأن نتائج المفاوضات المباشرة مع روسيا قبل الدخول في الحرب أن تتخيله.