الوقت - في يومٍ مشهود، ودّع لبنان والعالم العربي والإسلامي الشهيدين السيد حسن نصر الله والسيد هاشم صفي الدين في مراسم تشييع غير مسبوقة، تجسّدت فيها معاني الوفاء والعهد للمقاومة، وسط حضور رسمي وشعبي هائل فاق التوقعات. الحشود الغفيرة التي تدفّقت إلى شوارع بيروت منذ ساعات الفجر، رافعةً الأعلام والرايات، حملت في هتافاتها رسالةً واضحة: "المقاومة مستمرة، ونهج الشهداء لن ينطفئ".
موكب مهيب ووداع تاريخي
انطلقت مراسم التشييع من المدينة الرياضية في بيروت، حيث تجمّع مئات الآلاف من المشيعين في مشهدٍ طغت عليه العاطفة الجياشة والتأثر العميق. وبين الهتافات والدموع، حملت الجموع نعشي الشهيدين على الأكتاف، في مسيرة امتدت عبر شوارع بيروت وصولًا إلى الضاحية الجنوبية، حيث وُري جثمان السيد حسن نصر الله الثرى في مرقده المخصص، بينما نُقل جثمان السيد هاشم صفي الدين إلى مسقط رأسه في دير قانون النهر ليُدفن هناك يوم الاثنين.
حضور سياسي ودبلوماسي واسع
تميّز التشييع بحضور سياسي رفيع المستوى من لبنان وخارجه، حيث شارك رئيس مجلس النواب نبيه بري، ممثلًا أيضًا رئيس الجمهورية جوزيف عون، إلى جانب وزير العمل محمد حيدر ممثلًا رئيس الحكومة نواف سلام. كما حضر رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، والرئيس اللبناني السابق إميل لحود، ورئيس الحزب الديمقراطي اللبناني طلال أرسلان، إلى جانب شخصيات سياسية ودينية بارزة من مختلف الأطياف اللبنانية.
على الصعيد الإقليمي، شارك وفد إيراني رسمي رفيع المستوى برئاسة رئيس مجلس الشورى الإسلامي محمد باقر قاليباف، وضمّ وزير الخارجية عباس عراقتشي وعددًا من كبار الشخصيات السياسية والعسكرية الإيرانية. كما حضر وفد من الحشد الشعبي العراقي بقيادة رئيس الهيئة فالح الفياض، بالإضافة إلى وفد من حركة أنصار الله اليمنية برئاسة مفتي الديار اليمنية شمس الدين شرف الدين.
حضور دولي ومشاركة واسعة من فصائل المقاومة
امتدّ الحضور ليشمل ممثلين عن فصائل المقاومة الفلسطينية، الذين أكّدوا على عمق العلاقة بين المقاومة في لبنان وفلسطين، وجدّدوا العهد على استمرار النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي. كما شاركت شخصيات سياسية ودبلوماسية من عشرات الدول، في حدثٍ اعتُبر استفتاءً شعبيًا ورسميًا على مكانة الشهيدين في قلوب الجماهير والمقاومين في المنطقة.
كلمة الشيخ نعيم قاسم: "المقاومة باقية"
في كلمةٍ مؤثرة خلال التشييع، شدّد نائب الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، على أن السيد حسن نصر الله كان "قائد العقول والقلوب، ورمز المقاومة في وجه الظلم والاستكبار". وأضاف: "لقد قاد الأمة إلى المقاومة، وقاد المقاومة إلى الأمة، حتى أصبحا جسدًا واحدًا".
وأكّد قاسم أن المقاومة باقية رغم كل التحديات، مشيرًا إلى أن دماء الشهيدين ستبقى مصدر إلهام للأجيال القادمة، ودليلًا على أن طريق المقاومة لا يُمحى بالشهادة، بل يزداد تألّقًا وثباتًا.
تغطية إعلامية غير مسبوقة
حظي التشييع بتغطية إعلامية واسعة، حيث شاركت أكثر من 600 وسيلة إعلامية من مختلف أنحاء العالم، لنقل الحدث الذي وصفته العديد من القنوات بـ"التشييع الأضخم في تاريخ لبنان والمنطقة". كما غطّى مؤثرون عبر وسائل التواصل الاجتماعي اللحظات المؤثرة، مما جعل الحدث حديث العالم في الساعات الأخيرة.
المدينة الرياضية تغصّ بالجماهير منذ الصباح الباكر
منذ ساعات الفجر، شهدت الطرقات المؤدية إلى المدينة الرياضية زحفًا جماهيريًا غير مسبوق، حيث تدفّق المشيعون من مختلف المناطق اللبنانية، وحتى من خارج البلاد، للمشاركة في وداع القائدين الشهيدين. ورغم برودة الطقس والتهديدات الأمنية، أصرّت الجماهير على البقاء لساعاتٍ طويلة، مرددةً شعارات التأييد والتحدي، في مشهدٍ عزّ نظيره في تاريخ التشييعات الشعبية في لبنان.
هتافات تتحدى التهديدات الإسرائيلية
تزامن التشييع مع تحليق طائرات حربية إسرائيلية على علو منخفض فوق بيروت، في محاولة واضحة لترهيب المشيعين، لكن الرد جاء حاسمًا من الجماهير، التي دوّت أصواتها بهتافات مناهضة للكيان الصهيوني وأمريكا، مؤكدةً أن تهديدات العدو لن تزيد المقاومة إلا صلابة وإصرارًا على المضي قدمًا في نهج الشهداء.
رسائل الوفاء والتحدي من قلب التشييع
لم يكن التشييع مجرّد وداع، بل حمل في طياته رسائل قوية، أبرزها أن المقاومة ليست مرهونة بأفراد، وأن رحيل القادة لا يعني نهاية المسيرة، بل بداية مرحلة جديدة من الصمود والتحدي. كانت الحشود الحاشدة تقول للعالم بأسره: "المقاومة فكرةٌ لا تموت، ومسيرتها مستمرة، مهما بلغت التضحيات".
وداع يليق بالرموز الخالدة
مع وصول موكب التشييع إلى باحة الضريح، أُقيمت مراسم الصلاة على جثماني الشهيدين، حيث أمّ الشيخ محمد يزبك الحشود الغفيرة، وسط أجواء يملؤها الحزن والاعتزاز في آنٍ واحد. وعند لحظة الدفن، صدحت أصوات المشيعين بالدعاء، فيما ألقى بعض القادة نظرات الوداع الأخيرة على الجثمانين الطاهرين.
كانت تلك لحظات تختزل عقودًا من الجهاد والتضحية، وتؤكّد أن السيد حسن نصر الله وهاشم صفي الدين لم يرحلا، بل تحوّلا إلى رمزين خالدين في ذاكرة الأمة، وأن روحهما ستبقى حاضرة في وجدان الأحرار والمقاومين، حتى تحقيق النصر.
في لحظة ختام المشهد التاريخي، حمل المشيعون الراية التي لطالما رفعها الشهيدان، مردّدين العهد الذي قطعوه على أنفسهم: "لن نتراجع، لن نستسلم، وسنبقى أوفياء لدماء الشهداء حتى تحقيق النصر"، لتبقى هذه اللحظات محفورةً في تاريخ لبنان والمنطقة، كعنوانٍ جديد لمسيرة المقاومة.