الوقت - شهدت مصر خلال العقد الأخير تحولات جذرية في المشهد السياسي والأمني، وخاصة بعد إسقاط جماعة الإخوان المسلمين من السلطة عام 2013.
هذا الإرث السياسي جعل من صعود أي تيار إسلامي إلى السلطة في المنطقة قضية حساسة بالنسبة للقاهرة، ومع سقوط نظام بشار الأسد في سوريا ووصول "هيئة تحرير الشام" إلى السلطة، باتت المخاوف المصرية تتزايد، إذ ترى القاهرة في هذه التطورات انعكاسًا مباشرًا على أمنها القومي وتوازناتها الإقليمية.
التجربة المصرية مع الإسلاميين – الجذور والظلال
تجربة حكم جماعة الإخوان المسلمين في مصر، التي استمرت عامًا واحدًا (2012-2013)، تركت أثرًا عميقًا على الدولة والمجتمع، خلال هذا العام، شهدت مصر اضطرابات سياسية واقتصادية وأمنية، ما أدى إلى تدخل الجيش لعزل الرئيس محمد مرسي، أصبحت الدولة المصرية منذ ذلك الحين ترى في الإسلام السياسي تهديدًا وجوديًا لأمنها واستقرارها، وعملت على إقصائه من المجال العام.
وصول "هيئة تحرير الشام"، التي كانت مرتبطة بتنظيم القاعدة، إلى الحكم في سوريا، يعيد إلى الأذهان تجربة حكم الإخوان في مصر، ويشكل وجود إسلاميين في السلطة السورية تهديدًا مزدوجًا، فهو يُحيي مخاوف الداخل المصري من محاولات مشابهة، كما يعيد تشكيل التوازنات الإقليمية لمصلحة أطراف غير مريحة للقاهرة.
تؤمن مصر بأن صعود الإسلاميين إلى السلطة في أي دولة قريبة أو ذات تأثير إقليمي يفتح الباب أمام تصدير الفكر المتطرف إلى الداخل المصري، ويخشى النظام في مصر أن تصبح سوريا الجديدة ملاذًا للجماعات الإسلامية المسلحة التي قد تنقل أنشطتها إلى مصر أو تدعم جماعات داخلية.
التحولات الجيوسياسية وصراع النفوذ الإقليمي
برزت تركيا كأحد أكبر المستفيدين من سقوط النظام السوري، باعتبارها داعمًا رئيسيًا للمعارضة السورية، وخاصة الجماعات الإسلامية، ويمثل صعود تركيا تهديدًا مباشرًا لمصر، فالعلاقات التي كانت متوترة بين أنقرة والقاهرة، على خلفية دعم تركيا لجماعة الإخوان المسلمين، هي ما عززت هذه المخاوف.
تعتقد مصر أن صعود الإسلاميين في سوريا يمكن أن يعيد تشكيل التحالفات في المنطقة لمصلحة قوى غير مرحب بها، وأي تقارب محتمل بين تركيا وسوريا الجديدة يعزز نفوذ أنقرة ويضعف موقف مصر في صراع الهيمنة الإقليمية.
حيث ترى مصر أن التحولات في سوريا قد تمتد تداعياتها لتؤثر بشكل مباشر على الأمن القومي المصري، سواء من خلال تدفق المقاتلين أو انتشار الفكر المتطرف.
سياسة القاهرة الحذرة تجاه السلطة الجديدة في سوريا
دعمت مصر نظام بشار الأسد بشكل علني حتى سقوطه، وكانت القاهرة ترى في الأسد حليفًا يعزز الاستقرار في مواجهة الجماعات الإسلامية المسلحة.
لكن مع سقوط النظام، وجدت مصر نفسها أمام واقع جديد يتطلب إعادة ترتيب سياستها دون التخلي عن حذرها، ورغم التواصل المحدود مع السلطات السورية الجديدة، كانت مصر واضحة في شروطها لأي علاقة مستقبلية.
شددت القاهرة على ضرورة تحقيق انتقال سياسي شامل يضمن تقاسم السلطة، لتجنب احتكار الإسلاميين للحكم، وبادرت مصر بإرسال مساعدات إنسانية إلى سوريا كإشارة على رغبتها في البقاء جزءًا من المشهد السوري، لكن دون الاعتراف الكامل أو الدعم غير المشروط للإدارة الجديدة.
الإجراءات الاحترازية المصرية
فور سقوط الأسد، اتخذت مصر تدابير وقائية مشددة منها اعتقال سوريين كانوا يحتفلون بسقوط النظام السابق، وتشديد القيود على منح تأشيرات الدخول للسوريين، للحد من أي تهديد محتمل، جاءت هذه الإجراءات لتعكس مخاوف من تصاعد نشاط الجماعات الإسلامية داخل مصر.
كما لعب الإعلام المصري دورًا محوريًا في تعزيز مخاوف الرأي العام من التطورات في سوريا، وركزت التغطية الإعلامية على مشاهد الفوضى في سوريا، مع تحذيرات من أن الجماعات التي تقف وراءها قد تشكل تهديدًا مشابهًا لمصر.
وبثّت قنوات موالية للحكومة المصرية شريطا مصورا يعرض مشاهد اضطرابات وتدريبات عسكرية ومشاريع تنمية مرفقا بخطاب ألقاه السيسي عام 2017، أكد فيه أن الجهات الواقفة وراء الحرب في سوريا يمكن أن تتحوّل إلى مصر.
كما وردت على مواقع التواصل الاجتماعي صورة حديثة للقائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع إلى جانب القيادي الإخواني محمود فتحي الذي صدر بحقه حكم غيابي بالإعدام في قضية اغتيال النائب العام السابق هشام بركات.
التوازن بين المبادرات الإقليمية والحذر المصري
بادرت دول الخليج الفارسي، مثل السعودية والإمارات، بالتواصل مع الإدارة السورية الجديدة بشكل سريع، بالمقابل، تبنت مصر نهجًا أكثر حذرًا، يراعي حسابات الأمن الداخلي والتوازن الإقليمي.
أكدت مصر أن أي تقارب مع السلطات الجديدة يجب أن يكون مشروطًا بتقاسم السلطة، تعكس هذه الشروط محاولة القاهرة منع تكرار نموذج حكم الإخوان المسلمين في سوريا، وضمان أن تكون دمشق شريكًا مستقرًا لا مصدر تهديد.
حيث قالت الباحثة في معهد الشرق الأوسط ومقره واشنطن ميريت مبروك: إن "رد الفعل المصري كان حذرا جدا"، ورأت أن خطوط مصر الحمر هي الأمن والإسلاميون والجهات الفاعلة غير الحكومية، مضيفة: "لكن في سوريا اليوم، هناك في السلطة جهات فاعلة غير حكومية وإسلاميين، وهذا بمثابة استفزاز لمصر".
وأشارت ميريت مبروك إلى أن القاهرة تشدد خصوصا على مبدأ تقاسم السلطة الذي من شأنه أن يمنع الإسلاميين من احتكار الحكم في دمشق.
تشكل التطورات في سوريا اختبارًا جديدًا للسياسة المصرية في المنطقة، وفي ظل صعود الإسلاميين، ترى مصر في هذا التحول تهديدًا مزدوجًا: داخليًا من خلال إمكانية تصدير الأفكار المتطرفة، وإقليميًا عبر تعزيز نفوذ تركيا والقوى الداعمة للإسلام السياسي، وفي المقابل، تدرك مصر أهمية الانخراط في الملف السوري، لكنها تفعل ذلك بحذر شديد لضمان ألا يؤدي أي تقارب إلى تعريض أمنها القومي أو استقرارها الداخلي للخطر.