الوقت - يسود اعتقادٌ راسخ لدى غالبية الساسة والمنابر الإعلامية التركية بأن أنقرة، التي تصدرت المشهد في قيادة مشروع إسقاط النظام السوري منذ عام 2011، تقف اليوم على رأس المستفيدين من المجريات الراهنة في سوريا.
غير أن ثلةً من المراقبين والمحللين يؤكدون أن تعقيدات المشهد السوري، في ظل موقعه الجيوسياسي الفريد على ساحة التنافس الإقليمي والدولي، تُلقي بظلال من الشك والريبة حول إمكانية تحقيق المشروع التركي على الأراضي السورية، بل قد تتفوق التحديات والمخاطر المحدقة على الفرص المتاحة، لتحقيق طموحات أردوغان.
وما لا مراء فيه أن الملف الاقتصادي السوري، يُشكل أحد أبرز المحاور الرئيسية في هذه المعادلة المتأرجحة بين الفرص السانحة والتحديات الماثلة.
تتطرق المنابر الإعلامية التركية، بنبرةٍ متفائلة، إلى الآفاق الاقتصادية الواعدة التي يُبشر بها الانفتاح المتنامي للسوق السورية أمام المنتجات التركية، ويزداد هذا التفاؤل عمقاً مع ما يتردد من موافقة السلطات الراهنة في دمشق، على اعتماد الليرة التركية في المعاملات التجارية، وهو ما يُشكل رافعةً استراتيجيةً للحفاظ على قيمة العملة التركية التي عانت من تراجعاتٍ متتالية في الآونة الأخيرة.
وفي هذا السياق، كشفت صحيفة "ديلي صباح" عن قفزةٍ لافتة في أسهم الشركات التركية العاملة في قطاعات البناء والصلب والإسمنت، تزامناً مع سقوط نظام الأسد.
وتُظهر الإحصاءات أن حجم الصادرات التركية إلى سوريا خلال العام 2023، والتي تركزت بصورةٍ رئيسية في مناطق نفوذ المعارضة المسلحة بإدلب، قد تجاوز عتبة الملياري دولار، متضمنةً مواد البناء ومستلزمات الطاقة والسلع الغذائية، وفي المقابل، بلغت قيمة الواردات التركية من سوريا 363.5 مليون دولار.
وفي خضم هذا المشهد، لا تقتصر تطلعات أنقرة على توسيع حصتها في السوق السورية فحسب، بل تتطلع الشركات التركية إلى تبوّؤ موقعٍ ريادي في عملية إعادة إعمار البنية التحتية السورية.
وتجدر الإشارة إلى أن سوريا، التي أنهكها عقدٌ ونيف من الصراع الداخلي، تقف اليوم أمام تحدٍ هائل يتمثل في إعادة تشييد نسيجها التحتي الاقتصادي، بما يشمل شبكات الطرق ومحطات توليد الطاقة ومنظومات الاتصالات وغيرها، وفي ظل شحّ الموارد المالية المحلية في دمشق، يبرز الاستثمار الأجنبي كخيارٍ لا غنى عنه لتمويل عملية إعادة الإعمار الشاملة.
تكشف تقديرات البنك الدولي عن انهيارٍ مُدوٍّ للاقتصاد السوري بنسبة تناهز 85%، خلال ما يربو على أربعة عشر عاماً من الصراع الداخلي المحتدم، حيث هوى الناتج المحلي الإجمالي من 67.5 مليار دولار في عام 2011، ليستقر عند عتبة 8.98 مليار دولار فحسب بحلول عام 2023.
وفي تقريرٍ لافت، تُقدِّر مؤسسة "فيتش سوليوشنز" الفاتورة المتوقعة لإعادة إعمار سوريا بنحو 300 مليار دولار، ما يستلزم حشد دعمٍ دولي وإقليمي غير مسبوق.
وتتجلى الفرص الاقتصادية السانحة لتركيا في الساحة السورية، عبر تيسير نفاد أنقرة إلى الأسواق العربية في منطقة الخليج الفارسي وأفريقيا وشرق المتوسط، إذ تمثّل سوريا شريان التجارة الحيوي لتركيا، رابطةً إياها براً بالعالم العربي، شرقاً وغرباً، ومُفضيةً إلى جنوب شرق آسيا وأفريقيا، ولا سيما في أعقاب إقصاء تركيا من مشروع الممر الهندي (IMEC).
وتستشرف أنقرة في سقوط نظام الأسد، محفزاً جوهرياً لعودة اللاجئين السوريين المقيمين على أراضيها إلى ديارهم، وتُشير التقديرات إلى وجود قرابة 3 ملايين نازح سوري في تركيا، حيث تعزو حكومة أردوغان جانباً من موجة التضخم في أسعار السلع والعقارات وتفاقم معدلات البطالة، إلى الوجود السوري الكثيف.
وفي هذا المضمار، يُنوِّه أحمد أوكسوز، رئيس جمعية مُصدِّري المنسوجات والمواد الخام في إسطنبول، إلى أن عودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم، قد تُفضي إلى تحولاتٍ جذرية في المشهد العمالي بين البلدين.
تُسلِّط صحيفة "ديلي صباح" في تقريرها الضوء على المقومات الزراعية الواعدة التي تزخر بها الأراضي السورية، والتي تتمركز غالبيتها في السهول الخصيبة المتاخمة لضفاف نهر الفرات، ويستشرف التقرير الإمكانات الهائلة لهذه المناطق في ترسيخ دعائم الأمن الغذائي وتوليد فرصٍ وظيفية واسعة النطاق، ما يُعزز قدرة سوريا على تحقيق الاكتفاء الذاتي، وتنمية قدراتها التصديرية.
تتصدر العلاقات في مجال الطاقة، قائمة الفرص الاستثمارية التي تستحوذ على اهتمام صناع القرار والمنابر الإعلامية التركية في المشهد السوري، وفي هذا المضمار، أماط آلب أرسلان بايرقدار، وزير الطاقة التركي، اللثام في مؤتمرٍ صحفي عن مساعي بلاده الحثيثة لتأمين إمدادات الطاقة الكهربائية لسوريا في المستقبل القريب، مؤكداً عزم أنقرة على المساهمة الفاعلة في تطوير منظومة توليد الطاقة، وأردف بايرقدار أن بلاده ستضطلع بمسؤولية تأمين التيار الكهربائي للمناطق التي تئن تحت وطأة الانقطاعات المتكررة، مع التركيز مستقبلاً على تعزيز القدرات المحلية لإنتاج الطاقة.
ولم يُخفِ بايرقدار تطلعات بلاده نحو الثروات النفطية والغازية السورية، حيث أفصح عن إمكانية مدّ شبكة خطوط أنابيب جديدة لنقل المحروقات من سوريا إلى تركيا، مؤكداً أن هذه الخطوة ستُفضي إلى توطيد أواصر العلاقات الاقتصادية، وتحقيق التكامل في أسواق الطاقة بين البلدين، كما كشف النقاب عن استراتيجية تركية طموحة للتعاون طويل الأمد في هذا المجال الحيوي، تتضمن ربط شبكة الأنابيب السورية بمنظومة خطوط أنابيب العراق-تركيا.
لکن على الرغم من الخطط الطموحة والرؤى المتفائلة التي يتبناها صناع القرار والمنابر الإعلامية التركية، يرسم الخبراء صورةً أكثر تعقيداً للمشهد الاقتصادي السوري، تتجاوز في تحدياتها سقف توقعات أنقرة.
فمن ناحية، وعلى الرغم من الثراء الطبيعي الذي تزخر به سوريا من احتياطيات نفطية وغازية، إلا أن رحى الحرب قد طحنت القدرات الإنتاجية، وأفضت إلى تراجعٍ مهول في معدلات الإنتاج، وتكشف النشرة الإحصائية للطاقة الصادرة عن مؤسسة BP، عن انحدارٍ حاد في إنتاج النفط من 385 ألف برميل يومياً في عام 2010 إلى 40 ألف برميل فحسب، ما يجعل مسار التعافي الاقتصادي السوري أكثر بطئاً وتعقيداً من نظيره الليبي.
يُسلط تقرير معهد "تشاتام هاوس" الضوء على حجم التحديات الماثلة أمام سوريا، والتي تتخطى في تعقيداتها ما واجهته ليبيا عام 2011، فالإطاحة بمعمر القذافي استغرقت أقل من عام، ما حافظ على سلامة معظم البنية التحتية الليبية، بل إن المعارضين شرعوا في تصدير النفط قبل سقوط النظام.
أما المشهد السوري فيختلف جذرياً، إذ تتمركز البنية التحتية النفطية، المنهكة أصلاً، في المناطق الكردية وتخضع لسيطرة قوات شبه عسكرية مدعومة أمريكياً، خارج نطاق سلطة دمشق المركزية، وهذا يعني غياب موارد مالية وطنية من قطاع الطاقة، يمكن أن تشكّل قاسماً مشتركاً لمصالح جميع الأطراف.
وعليه، فإن الرهان على تدفق استثماراتٍ أجنبية ضخمة إلى سوريا، حيث تستأثر الشركات التركية بنصيب الأسد منها وتُحقق من خلالها نهضةً اقتصاديةً في تركيا، يُعدّ ضرباً من التفاؤل المفرط الذي يجانب الواقع بمعطياته.
کذلك، تتصدر العقوبات الدولية مشهد التحديات الاقتصادية في سوريا، بوصفها العقبة الكؤود، ويجمع الخبراء على أن تفكيك منظومة العقوبات، يُشكل حجر الزاوية في استقطاب الاستثمارات الأجنبية، وتمويل عمليات إعادة الإعمار، غير أن سياسات حكومة هيئة تحرير الشام، المثقلة بإرث علاقاتها مع تنظيم القاعدة، لم تفلح بعد في اكتساب ثقة المجتمع الدولي، ما يجعل مسار رفع العقوبات محفوفاً بالضبابية.
وحتى في حال تحقق هذا السيناريو، فإن الدول الغربية، المنهكة أصلاً بالتكاليف الباهظة للحرب الأوكرانية على مدى السنوات الثلاث المنصرمة، والفاتورة المرتقبة لإعادة إعمار أوكرانيا، تتجه بوصلتها الاستثمارية نحو أولويات مغايرة، ناهيك عن أن ترامب، بحكم خلفيته التجارية، قد يجعل رفع العقوبات رهيناً بضمان السيطرة على الثروة النفطية السورية، واقتناص حصة وازنة من سوقها.
وفي خضم هذه المعطيات، لم تُبدِ الدول العربية، ولا سيما دول مجلس التعاون، حماساً يُذكر للاستثمار في المشهد السوري، فباستثناء الموقف القطري المرحب بالتطورات السورية، تنظر القوى الخليجية المحورية، كالإمارات والسعودية، بعين الريبة إلى تعاظم النفوذ التركي ذي النزعة الإخوانية في المنطقة العربية، ولعل تصريحات مستشار رئيس دولة الإمارات في هذا السياق، تُعدّ أبلغ شاهد، يُضاف إلى ذلك انشغال السعودية والإمارات في الآونة الأخيرة باستقطاب الاستثمارات الأجنبية لمشاريعهما التنموية الطموحة، في ظل تراجع العوائد النفطية إبان جائحة كورونا.
وعليه، تبقى تركيا وقطر الأمل الوحيد للحكام الجدد في دمشق لمعالجة أزماتهم الاقتصادية، ما يضع على كاهل أنقرة العبء الأكبر من تكاليف النهوض بالاقتصاد السوري المنهك.
في السياق ذاته، لا تزال الليرة السورية تتأرجح في دوامة من التقلبات الحادة، مُجسّدةً عمق التحديات الاقتصادية الجسيمة التي تعصف بالبلاد، فعقب سقوط نظام الأسد، شهدت العملة المحلية انتعاشاً طفيفاً، إذ تراجع سعر صرفها في السوق السوداء من 15000 ليرة مقابل الدولار الأمريكي، إلى 13100 ليرة، بيد أن تصاعد وتيرة الاضطرابات الأمنية في الآونة الأخيرة، قد أوقف مسار هذا التحسن العابر، ليُعلن المصرف المركزي للحكومة الجديدة تثبيت السعر الرسمي للدولار عند عتبة 15000 ليرة.
وتكشف المؤشرات الاقتصادية عن استمرار الهوة السحيقة بين السوق الرسمية والسوق الموازية، مع تباينٍ سعري صارخ بينهما، ما يُقوّض قدرة المواطنين على استشراف آفاق الاستقرار المالي في البلاد.
ويُسلط تقرير مجلس الذهب العالمي الضوء على احتياطيات سوريا من الذهب التي بلغت 25.8 طناً في يونيو 2011، بقيمة تُقدر راهناً بنحو 2.23 مليار دولار، غير أن التقرير يؤكد أن سُبل الاستفادة من هذا الاحتياطي، تظل ضبابيةً في خضم المتغيرات السياسية المتسارعة.
کما أن الظروف الاقتصادية والمعيشية الخانقة التي يرزح تحت وطأتها الشعب السوري، تُنذر بمزيدٍ من التدهور في ظل القرارات الاقتصادية المتسرعة للسلطة الجديدة، كإلغاء الدعم عن السلع الأساسية كالخبز والوقود.
وعليه، يبدو من قبيل التسرع تبني النظرة المتفائلة التي يروّج لها المسؤولون والمنابر الإعلامية التركية، بشأن انفتاح آفاق الفرص الاقتصادية أمام بلادهم، بل إن تدفق الأزمات الاقتصادية للحكومة الجديدة نحو أنقرة، قد يضع حكومة أردوغان في مأزقٍ عصيب يُضاف إلى تحدياتها الراهنة.