الوقت - في ميدان علم اجتماع التحول، يجمع كبار المنظرين على أن "الحرب" هي المحرك الرئيس للتحولات الاجتماعية الجذرية، فقد كانت الحروب على مرّ العصور سبباً في تقويض أسس الحضارات، لتمهّد بذلك الطريق أمام ولادة حضارات عظيمة من رحم الدمار، وتُعدّ الحرب في هذا السياق منبعاً خصباً لـ"التحولات الكبرى" و"التغيرات الهائلة"، في شتى المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعقائدية وغيرها.
فمع اندلاع الحروب الطاحنة، كالحربين العالميتين الأولى والثانية، شهدنا انهيار أنظمة راسخة وبزوغ أنظمة سياسية ودولية جديدة من رماد الصراعات، كم من إمبراطوريات تهاوت، وكم من قوى عظمى نهضت من بين الأنقاض لترسم خارطة عالم جديد، إن الحرب، في جوهرها، هي سيف ذو حدين - فهي أداة للفناء والدمار، وفي الوقت ذاته محفز للتجدد والانبعاث.
منذ ما يناهز 414 يوماً، اشتعلت رحى حربٍ جبارة، غير متكافئة، تلتهم الديار وتحصد الأرواح، وهي - بلا مِراء – "مُحدِثة لتحوّلٍ جذري" بين جبهتين متصارعتين، وقد أفضت خلال هذه الحقبة إلى تحولات عميقة وتغيرات جوهرية في المنظومة الفكرية والمفاهيمية لكلا الطرفين.
فالغرب، على امتداد هذه الأيام الـ 414، قد استنفد رصيده التاريخي بأكمله، وبذل كل ما يملك من ميتافيزيقيا، واستنزف منظومته القيمية برمتها، وأهدر إرثه الفكري بأسره في سبيل مناصرة "إسرائيل" والذود عنها، وذلك من خلال دعمه المطلق واللامشروط لجرائمها الصارخة في غزة، وكل ذلك يجري في مشهدٍ مفتوح أمام أنظار العالم أجمع!
لقد ضحى الغرب بمنظومته القيمية بأكملها - من حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وحقوق الطفل، وحرية التعبير، وحرية تداول المعلومات، والحق في التعليم، والحق في الحياة الكريمة… كل هذه المبادئ السامية وغيرها، قد تمت التضحية بها خلال هذه الحقبة المفصلية أمام مرأى المليارات من بني البشر، وبصورة علنية فاضحة، وببث حي ومباشر، وذلك في سبيل الدفاع عن أكثر الأنظمة مقتاً وكراهيةً في عالمنا المعاصر، ألا وهو "الكيان الإسرائيلي".
إن هذه التحولات الجذرية العميقة، وتبخر وتلاشي "المنظومة القيمية والإنجازات الحضارية التي راكمها الغرب منذ فجر عصر التنوير وحتى يومنا هذا"، ليست سوى ثمرة مُرّة لهذه الحرب المشتعلة التي نشهد فصولها المأساوية!
ستنتهي هذه الحرب غير المتكافئة عاجلاً أم آجلاً، غير أن تداعياتها - بغض النظر عن الطرف المنتصر - لن تترك الغرب والكيان الصهيوني في المستقبل القريب ولن تنتهي بسهولة، هذه المرة لن تتمكن هوليوود ولا ديزني ولا الصناعة الثقافية والإعلامية، من قلب الموازين لمصلحة الغرب بهذه السهولة!
يقف في جانب من هذه الحرب مجموعات متفرقة وحركات شعبية تحظى بدعم الجمهورية الإسلامية الإيرانية حصراً، وفي الجانب الآخر يقف الكيان الإسرائيلي الذي يتمتع - دون مبالغة - بدعم شامل من أوروبا وأمريكا وبعض الدول الآسيوية وحتى الدول الإسلامية، يمتلك هذا الطرف الصواريخ والمسيّرات والرأي العام العالمي، بينما يحظى الطرف الآخر بدعم هائل على الصعيد العسكري والمالي والاستخباراتي والتكنولوجي… وأمور أخرى تفوق تصورنا.
ومع كل هذا، وعلى الرغم من عدم تكافؤ هذه الحرب، فإن غزة وجنوب لبنان - بإمكاناتهما المحدودة وداعمهما الوحيد - صمدا لمدة 414 يوماً، ووجّها ضربات تاريخية غير مسبوقة للصهاينة، ما أحدث تحولاً تاريخياً غير مسبوق في هذا الكيان، حتى أن وسائل الإعلام وكبار المسؤولين في هذا الكيان يتحدثون عن "انهيار إسرائيل"، فأي ضربة وأي انهيار وأي تحول نتحدث عنه؟
ففي تقرير صادم كشفت عنه صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، تتكشف أبعاد غير مسبوقة عن الحالة النفسية المتدهورة في صفوف الجيش الإسرائيلي، فقد أماطت الصحيفة اللثام عن معاناة آلاف الجنود الذين يكابدون اضطرابات نفسية حادة في أعقاب المواجهات الضارية في جبهتي غزة ولبنان، حيث يسعى هؤلاء بصورة عاجلة للحصول على دعم نفسي متخصص، وقد تم بالفعل تشخيص شريحة واسعة منهم باضطراب ما بعد الصدمة.
وتكشف المعطيات الميدانية عن ظاهرة مقلقة، تتمثل في تسرب متزايد من الوحدات العسكرية المشاركة في المعارك، سواء في القطاع أو على الجبهة اللبنانية، حيث يضطر مقاتلون للانسحاب من الخدمة جراء انهيارهم النفسي، ورغم الرغبة الجامحة لدى العديد من الجنود في الانسحاب من ساحات القتال، إلا أنهم يصطدمون بواقع مرير يتمثل في النقص الحاد بالقوات البشرية، وتصاعد أعداد الإصابات في صفوفهم.
وفي تطور دراماتيكي يعكس عمق الأزمة، يتجه جنود في إحدى كتائب المشاة النظامية وعائلاتهم نحو اتخاذ إجراءات قانونية ضد قياداتهم العسكرية، متهمين إياها بالتقصير الفادح في التعامل مع الضغوط النفسية الهائلة التي يتعرض لها الجنود.
والأشدّ إيلاماً في هذا المشهد المأساوي للصهاينة، توثيق حالات انتحار مروعة لما لا يقل عن ستة جنود ممن شاركوا في المعارك الممتدة على جبهتي غزة ولبنان خلال الأشهر الأخيرة، وتوزعت حالات الانتحار بين ثلاثة جنود أقدموا على إطلاق النار على أنفسهم، وجندي ألقى بنفسه من برج شاهق، واثنين آخرين اختارا إنهاء حياتهما شنقاً، في مشهد يعكس عمق الأزمة النفسية التي تعصف بالمؤسسة العسكرية الإسرائيلية.
وفي تصريحٍ لافتٍ، أدلى إسحاق هرتزوغ، رئيس الكيان الصهيوني، بتصريحاتٍ مثيرة بالأمس، حيث قال: "يستوقفني في هذه المرحلة الحساسة بعض المستجدات التي تثير في نفسي قلقاً عميقاً يفوق ما سواها… نحن نخوض حرباً ضروساً، ودفعنا ثمناً باهظاً من أرواح وأجساد الآلاف بين قتيلٍ وجريح… ماذا يجري الآن على أرض الواقع؟ نشهد تصرفاتٍ مشينة ومخزية تجاه عائلات المأسورين، ويُرمى رئيس جهاز الشاباك ورئيس هيئة الأركان بتهم الخيانة العظمى ومحاولة الانقلاب، ويُتهم المستشار القانوني للحكومة بالعداء للدولة، ويتعرض لسيلٍ من التهديدات بالإقالة على مدار الساعة، وتُلقى قنابل الإنارة على مقر إقامة رئيس الوزراء مع اتهامه بالخيانة… ثمة من يقوّضون أركان إسرائيل، وأتعهد بمواجهتهم بكل ما أوتيت من قوة وحزم، إنني أوجه إليكم تحذيراً صريحاً: أنتم تدمرون إسرائيل، وهذا الجنون يجب أن يتوقف في الحال".
والجدير بالذكر أن هذه التصريحات الخطيرة، التي استعرضنا جانباً منها، قد حظيت بالضوء الأخضر للنشر من قِبَل جهاز الرقابة في الكيان الصهيوني!
إنَّ الإبادة الممنهجة للنساء والأطفال، لم تُضِف قطُّ إلى رصيد أيِّ قوةٍ عُظمى في التاريخ، وها هو ذا حجمٌ هائلٌ من القسوة وإراقة الدماء، يجري تسويغه بأرقى وأحدث المصطلحات السياسية وأكثرها تقدُّماً، سيعصف حتماً بأركان الكيان الصهيوني ويقوِّض دعائمه.
فهذه الممارسات لم تَدفع بالمنطقة وحدها نحو مرحلةٍ غير مسبوقة من التحولات الجذرية على الأصعدة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، بل دفعت بالعالم أجمع، إنَّها، وبلا مواربة، أضخم عملية إبادة تُبَث مباشرةً في التاريخ البشري، حيث تتجلى الحقائق سافرةً أمام أنظار العالم بأسره.
وها قد بدأت بوادر الانهيار تتجلى بوضوحٍ لا لبس فيه، على المستويات العسكرية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية، لتطال "إسرائيل" ومن يقف في صفها من الداعمين والمؤيدين.