الوقت - لقد استحالت مستجدات الضفة الغربية في الآونة الأخيرة، إلى بؤرة قلق متنامية للكيان الصهيوني، حتى غدت في نظر الكثيرين أشبه ببرميل بارود، قد تُشعله أدنى شرارة في أي لحظة.
إن مزيجًا متفجرًا من الغضب المكبوت إزاء المجازر الوحشية بحق إخوانهم في غزة، والاعتداءات الممنهجة والمتواصلة من قبل المستوطنين على أرواح وممتلكات أهل الضفة، والمساعي الحثيثة للصهاينة لتغيير الوضع التاريخي للقدس، والتغلغل المتعاظم لفصائل المقاومة هناك، وصمت الدول العربية المريب وتخاذلها، وسوء تدبير قيادات فتح الفلسطينية، كل ذلك تضافر ليدفع حالة السخط في الضفة إلى نقطة اللاعودة.
وفي ظل هذا المشهد المتأزم، شرع جيش الاحتلال الصهيوني يوم الأربعاء الماضي في عملية عسكرية واسعة النطاق في الضفة الغربية، تُعدّ الأضخم منذ عملية "الدرع الواقي" عام 2002.
يدّعي جيش الاحتلال أنه يسعى لمواجهة الفصائل المسلحة المنتشرة في أرجاء الضفة الغربية، وقد أسفرت هذه العملية العسكرية الغاشمة، التي نُفذت في محافظات "طولكرم وجنين وطوباس" شمال الضفة الغربية، عن ارتقاء 17 شهيدًا فلسطينيًا وإصابة العشرات بجروح متفاوتة حتى اللحظة.
وأفادت مصادر صهيونية بأن هذه العملية الكبرى، التي تشارك فيها الطائرات الحربية والمروحيات والطائرات المسيرة، ستتواصل خلال الأيام القليلة المقبلة، وستتركز في مدينة طوباس ومخيمات جنين ونور شمس، أما طولكرم، فهي مسقط رأس منفّذ العملية الاستشهادية البطولية الأخيرة في تل أبيب.
ووفقًا لما كشفت عنه صحيفة "الجريدة" الكويتية في تقرير، فقد أقدمت قوات الاحتلال الإسرائيلي على إحكام الخناق حول مدينة جنين، حيث عمدت إلى إغلاق جميع مداخلها الرئيسية، ونشرت وحدات القناصة المتخصصة في مواقع استراتيجية، وأمطرت المركبات الفلسطينية بوابل من الرصاص، كما قامت بقطع شرايين الحياة عن المدينة من خلال إغلاق غالبية الطرق المؤدية إليها.
وفي تصعيد خطير، أصدر جيش الاحتلال الصهيوني أوامره لسكان مخيم نور شمس بإخلاء منازلهم على الفور، في محاولة مكشوفة لتهجير السكان قسريًا، وفي سياق متصل، أحكمت القوات العسكرية حصارها الخانق على ثلاثة مستشفيات حيوية في جنين، وشرعت في تدمير ممنهج للشوارع المؤدية إليها باستخدام الجرافات الثقيلة، وأقامت السواتر الترابية العازلة بهدف شل حركتها وعزلها عن محيطها الحيوي.
لقد انطلقت هذه العملية العسكرية الشرسة والممنهجة، في أعقاب سلسلة من التحذيرات الأمنية المتصاعدة التي أطلقتها أجهزة الاستخبارات في تل أبيب، والتي تشير إلى احتمالية وشيكة لاندلاع انتفاضة جديدة تهز أركان الكيان الصهيوني، ويزعم قادة الاحتلال أنهم يسعون للمبادرة واستباق الأحداث، في محاولة يائسة لإجهاض عمليات المقاومين الفلسطينيين، قبل أن تتبلور في شكل انتفاضة شاملة تجتاح المنطقة بأسرها.
وفي هذا السياق، نقلت القناة 14 الإسرائيلية عن مصادر عسكرية رفيعة المستوى، قولها بأن ساعة الصفر للهجوم على شمال الضفة الغربية قد دقت، وحان أوان اجتثاث ما يسمونه الإرهاب من جذوره.
أما يسرائيل كاتس، وزير خارجية الكيان الصهيوني، فقد غرّد عبر منصة "إكس" قائلًا: "يعمل جيشنا بكل ما أوتي من قوة في مخيمات اللاجئين في جنين وطولكرم، لتدمير ما يزعم أنها البنية التحتية للإرهابيين المتحصنين هناك".
وفي ادعاء خطير ينمّ عن تخبط واضح، زعم كاتس أن حركة حماس وحزب الله وإيران يقفون وراء دعم الفصائل الفلسطينية المقاومة، مدعيًا أنهم أسسوا ما أسماه جبهةً إرهابيةً شرقيةً في الضفة الغربية المحتلة.
وأضاف هذا الوزير الصهيوني في سلسلة من المزاعم الواهية: "يجري تهريب أسلحة متطورة بشكل غير قانوني من الأردن إلى مناطق في الضفة الغربية".
تأتي هذه المزاعم المفضوحة في أعقاب العملية النوعية البطولية التي نفّذها مقاتلو كتائب القسام، قبل أسابيع معدودة في منطقة غور الأردن الاستراتيجية، والتي أسفرت عن مصرع أحد جنود الاحتلال وإصابة آخرين بجروح بالغة، في ضربة موجعة هزت أركان المؤسسة الأمنية الصهيونية.
ردود فعل حركة حماس والسلطة الفلسطينية
أثارت الممارسات الوحشية للكيان الصهيوني في الضفة الغربية، موجةً عارمةً من السخط والاستنكار في أوساط الفصائل الفلسطينية.
وفي بيان يتسم بالحزم والصرامة، أطلقت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) تحذيراً شديد اللهجة، مؤكدةً أن هذه العمليات العسكرية ليست سوى محاولة مدروسة لتنفيذ مخططات الحكومة اليمينية المتطرفة، الهادفة إلى ضم أراضي الضفة الغربية، وتوسيع رقعة الصراع المحتدم في قطاع غزة.
وقد عزت الحركة تصاعد وتيرة التوتر في الضفة الغربية، إلى الصمت الدولي المريب إزاء الانتهاكات الصارخة لكل الأعراف والمواثيق الدولية من قبل الكيان الصهيوني، واستهدافه الممنهج للمدنيين العزل.
وفي السياق ذاته، أدلى نبيل أبو ردينة، الناطق الرسمي باسم الرئاسة الفلسطينية، بتصريح بالغ الأهمية، محذراً من أن تصعيد آلة الحرب الإسرائيلية في الضفة الغربية، إضافةً إلى حملة الإبادة المستعرة في قطاع غزة، سيفضي إلى عواقب وخيمة يتكبد تبعاتها الجميع دون استثناء.
وحمّل أبو ردينة سلطات الاحتلال والإدارة الأمريكية الداعمة لها، المسؤولية التامة عن هذا التصعيد الخطير، في إشارة واضحة إلى تواطؤ واشنطن في الأحداث الجارية.
وفي تطور لافت، قطع محمود عباس، رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، زيارته الدبلوماسية إلى المملكة العربية السعودية على وجه السرعة، لمتابعة تداعيات الاعتداءات الإسرائيلية المتصاعدة على شمال الضفة الغربية.
منذ اندلاع شرارة الحرب على غزة، شرع المستوطنون المتطرفون والقوات العسكرية المحتلة في شن حملة ممنهجة من الهجمات الشرسة على الفلسطينيين القاطنين في الضفة الغربية، ووفقاً لإحصائيات الأمم المتحدة، فقد سقط ما لا يقل عن 637 شهيداً فلسطينياً في الضفة الغربية، على أيدي القوات العسكرية الإسرائيلية أو المستوطنين المتطرفين خلال الأشهر الأحد عشر المنصرمة، علاوةً على ذلك، تعرض الآلاف للاعتقال التعسفي والزج بهم في سجون الاحتلال.
أهداف العمليات العسكرية في الضفة الغربية
في خضم التصعيد العسكري الصهيوني غير المسبوق في الضفة الغربية، تتنامى بوتيرة متسارعة هواجس المراقبين السياسيين والمحللين الاستراتيجيين، إزاء المقاصد الخفية والنوايا المبيتة لصناع القرار في تل أبيب.
ومن بين أشدّ الأهداف خطورةً، والتي يحذّر منها كبار المحللين، يبرز المخطط الصهيوني الرامي إلى توسيع نطاق الاحتلال في الضفة الغربية، فقد أعلن نتنياهو، عند تشكيل حكومته اليمينية المتطرفة في ديسمبر 2022، عن التزامه الراسخ بمواصلة سياسة التوسع الاستيطاني، وتكثيف بناء المستوطنات في الضفة الغربية، موجّهاً جلّ اهتمامه نحو هذه المنطقة الاستراتيجية أكثر من قطاع غزة.
والآن، في ظل التحولات الجذرية التي طرأت على المشهد الأمني في الأراضي المحتلة عقب حرب غزة، وتزعزع أمن المستوطنين بشكل غير مسبوق، تسعى حكومة نتنياهو بكل ما أوتيت من قوة لاستكمال مشروعها التوسعي.
إن العمليات الاستباقية المزعومة لمواجهة فصائل المقاومة في الضفة الغربية، ليست سوى ستار يخفي وراءه الأهداف الحقيقية، والمتمثلة في إقامة كيان يهودي خالص، وهو مخطط استراتيجي اكتسب زخماً غير مسبوق في أجندة هذا الکيان، مع تبوؤ اليمين المتطرف سدة الحكم في تل أبيب.
وتشكّل الاقتحامات المتكررة والممنهجة للمستوطنين للمسجد الأقصى المبارك، إلى جانب التصريحات الاستفزازية لإيتمار بن غفير، وزير الأمن الداخلي في الكيان الصهيوني، بشأن إقامة ما يسمى "هيكل سليمان" على أنقاض هذا الصرح الإسلامي العظيم، تشكّل حلقات متصلة في سلسلة المشروع التوسعي الشامل.
من زاوية أخری، وفي تحليل للمشهد السياسي، يطرح السيد منير الجاقوب - مدير المركز الوطني للدراسات السياسية – رؤيته حول الأبعاد الخفية للعدوان الإسرائيلي على الضفة الغربية، ففي حوار حصري مع شبكة سكاي نيوز العربية، يكشف الجاقوب عن استراتيجية إسرائيلية متعددة الأوجه، تهدف في جوهرها إلى تقويض أركان السلطة الفلسطينية.
يؤكد هذا الخبير أن "العملية العسكرية الراهنة، ليست سوى حلقة في سلسلة ممتدة من العدوان، ولن تكون الأخيرة بأي حال، فنتنياهو يسعى بدأب إلى إضعاف السلطة الفلسطينية وإزاحتها من المشهد السياسي، متجنبًا بذلك أي تسوية حقيقية للصراع".
ويضيف الجاقوب: "إن تهجير الفلسطينيين من مخيمات الضفة الغربية، يمثّل محورًا رئيسيًا في الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية، وهو امتداد لمشروع استيطاني متجذر منذ نشأة الكيان الصهيوني".
ومن الجدير بالتأمل أنه في أعقاب الحرب على غزة، اتخذ نتنياهو موقفًا متصلبًا ضد السلطة الفلسطينية، معلنًا بصراحة رفضه القاطع لأي دور لها في إدارة قطاع غزة مستقبلاً، ويرى نتنياهو أن محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، قد أخفق في تلبية توقعات تل أبيب للتعاون مع سلطات الاحتلال، فقد زعم نتنياهو أن عباس كان مُلزمًا بإدانة عملية حماس في السابع من أكتوبر، إلا أن الموقف المتحفظ للسلطة أثار سخط القيادة الإسرائيلية.
ونتيجةً لهذا التحول، يرى المتطرفون الإسرائيليون أن السلطة الفلسطينية قد فقدت صلاحيتها السياسية، ولم تعد قادرةً على خدمة المصالح الإسرائيلية كما كان مأمولاً، ما يستدعي - في نظرهم - تولي القوات العسكرية الإسرائيلية زمام الأمور في الضفة الغربية.
وفي سياق متصل، يرى بعض المحللين الاستراتيجيين أن الإخفاق الذريع في غزة، يشكّل الدافع الرئيسي وراء قرار نتنياهو بتصعيد العدوان على الضفة الغربية، وفي هذا الصدد، يصرح الخبير الاستراتيجي عبد المجيد سويلم في حوار مع وكالة سما الإخبارية قائلاً: "إن الهدف الاستراتيجي الأهم لإسرائيل يتمثّل في الاحتلال الشامل للضفة الغربية، في محاولة يائسة للتغطية على إخفاقها الذريع في غزة".
ويری السيد سويلم أن "الكيان الصهيوني يدرك سلسلة إخفاقاته الاستراتيجية المتتالية؛ بدءًا من حربه الإجرامية الدموية على غزة، مرورًا بفشله الذريع في معركة الردع أمام حزب الله اللبناني، وانتهاءً بعجزه عن تحييد النفوذ الإيراني وكبح جماح سيطرة أنصار الله اليمنيين على مضيق باب المندب الاستراتيجي".
ويضيف: "إن الأزمة الوجودية التي تعصف بالكيان الصهيوني اليوم، تتجلى في الاستنزاف الحاد لقدراته العسكرية وموارده البشرية ونسيجه المجتمعي، في ظل حرب مرتقبة تلوح في الأفق بمواجهات عنيفة غير مسبوقة، علاوةً على ذلك، فإن الواقع الأمني والاجتماعي والاقتصادي المتردي، يشكّل سيفًا مسلطًا على رقبة الحكومة الصهيونية، يضغط عليها من جميع الجهات بلا هوادة".
ويستطرد سويلم قائلاً: "وعليه، يجد الكيان الصهيوني نفسه اليوم في مأزق استراتيجي خانق، لا مخرج منه سوى المغامرة بشن حرب جديدة يتوهمها أيسر، أو يتخيل إمكانية تحقيق انتصارات خاطفة في الضفة الغربية، في محاولة يائسة لتغطية هزائمه الفادحة وإخفاقاته المتلاحقة".
إن الهواجس الأمنية الصهيونية تتصاعد بوتيرة متسارعة من احتمال اندلاع انتفاضة ثالثة في الضفة الغربية، تتزامن مع أتون الحرب المستعرة على غزة، ما قد يُغرق الأراضي المحتلة في دوامة من الفوضى الشاملة، ونظرًا للعجز البنيوي للجيش الصهيوني عن خوض حرب على جبهات متعددة، فإن أمن المستوطنين سيكون عرضةً لمخاطر وجودية غير مسبوقة.
ومن منظور آخر، فإن توقيت هذه العملية العسكرية، المتزامن بدقة مع استئناف مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، يحمل في طياته دلالاتٍ عميقةً وأبعادًا خفيةً، فهو يكشف بجلاء عن النوايا الحقيقية لحكومة نتنياهو المتطرفة في إدامة أمد الحرب على غزة، بل تصعيدها من خلال تأجيج نيران الصراع في الضفة الغربية، في مسعى محموم لنسف جهود الوساطة، وإخراج المفاوضات عن مسارها المرسوم.
وعلى الرغم من هذه المناورات الاستراتيجية، فإن العدوان الوحشي على الضفة الغربية، بما يصاحبه من عمليات تطهير عرقي وتدمير ممنهج للبنى التحتية الحيوية وجرائم إبادة جماعية، سيؤدي حتمًا إلى تدهور كارثي في الأوضاع الإنسانية والأمنية، ومع اشتعال فتيل المقاومة المسلحة الفلسطينية، ستجد الأراضي المحتلة نفسها محاصرةً بنيران ثلاث جبهات متزامنة، ما يضع الكيان الصهيوني في موقف استراتيجي بالغ الهشاشة والخطورة.