الوقت - منذ نشأة النواة الأولى للاحتلال الصهيوني على أرض فلسطين، وتشكيل أولى المجموعات اليهودية المسلحة وحتى يومنا هذا، ظل التركيز الأساسي للصهاينة وداعميهم منصبًا على القوة العسكرية لـ "إسرائيل".
وعلى مدار سنوات الاحتلال، لم ينفكوا يتحدثون عن الأسلحة الفردية المتطورة في الجيش الإسرائيلي، وأطلقوا على أنفسهم لقب أقوى جيش في الشرق الأوسط، وتباهوا بأنظمة الدفاع الجوي المتقدمة والمتعددة، وادعوا أنهم محظوظون بنصر إلهي في معاركهم العسكرية، وغير ذلك الكثير.
لكن السؤال يبقى: ما سر هذا الإصرار؟ ولماذا جعل الصهاينة من الدعاية العسكرية ركيزةً أساسيةً في هويتهم ونظامهم الحاكم؟ الإجابة على هذا التساؤل، تكمن في تحليل يستمد عناصره من المنطق والمعلومات العسكرية والدراسات التاريخية.
قد يبدو مستغربًا، لكن الإجابة الأولية ليست بأي حال من الأحوال أن "إسرائيل" تبالغ في تقدير قدراتها! كما أن الافتراض بأن "إسرائيل" تعتمد على الدعاية العسكرية لردع أي هجوم محتمل، هو افتراض مضلل وغير دقيق.
في الواقع، اكتسب الصهاينة ثقةً عسكريةً هائلةً خلال صراعاتهم مع العرب، وتعززت هذه الثقة بعد أحداث السابع من أكتوبر، وهذا ما يفسّر افتتاحهم لجميع الجبهات المحيطة بهم بشكل متهور.
ما الخطأ الفادح الذي ارتكبته ألمانيا النازية ونابليون بونابرت؟ لعنة "انعدام الوطن" تلاحق أمريكا و"إسرائيل" في غرب آسيا
ولكن أين تكمن الإجابة الحقيقية؟ ينبغي البحث عن الإجابة، في الجانب الذي تتجنب فيه "إسرائيل" وحليفتها الولايات المتحدة الحديث عن سر دفين، وهذا السر الدفين هو ما يدفع "إسرائيل" لجعل الدعاية العسكرية في صدارة هويتها.
إن نظرةً متفحصةً للتاريخ ومنطق الحرب، فضلاً عن مبادئها قبل وبعد نشوبها، تكشف أن من يركز على معداته العسكرية أكثر من أيديولوجيته وشجاعة جنوده وتحالفاته وشرعية قضيته، هو في الحقيقة من يخشى شيئًا ما، فما الذي يثير خوف "إسرائيل" وحلفائها، لدرجة جعلهم يتخذون من استعراض القوة سياسةً رئيسيةً في منطقة غرب آسيا؟
السر الدفين المشار إليه هو أن "إسرائيل" تعاني من افتقار للعمق الاستراتيجي في منطقة غرب آسيا، حتى داعمتها الولايات المتحدة، التي هددت مراراً بالتدخل للدفاع عن "إسرائيل"، ستواجه هي الأخرى مشكلة الافتقار للعمق الاستراتيجي في أي صراع محتمل.
لكن ما تأثير غياب العمق الاستراتيجي على المواجهة العسكرية والحرب؟ إن غياب العمق الاستراتيجي أو افتقاد المساحة الكافية يعني، في المقام الأول، محدودية الموارد اللوجستية وغياب القوات الاحتياطية.
ثانيًا، في حالة غياب العمق الاستراتيجي، يواجه المقاتلون خطرًا جسيمًا يتمثل في تدمير الموارد الحيوية مع استحالة تعويضها، وثالثًا، يتعرض المقاتل المفتقر للعمق الاستراتيجي، لأكبر مأساة محتملة في الحرب، وهي "انقطاع خطوط الإمداد"، ما لم يكن ضمن قوة انتحارية!
ورابعًا، يعني افتقاد العمق الاستراتيجي أن "إسرائيل" والولايات المتحدة، وفقًا للمنطق الأساسي للحرب المتمثل في "الأرض"، لا تملكان موطئ قدم ثابت للمناورة، فهما أشبه بشخص محصور بين خياري الوقوف أو السقوط دون بديل ثالث، وبالتالي، تصبح مفاهيم إعادة التجميع والانسحاب التكتيكي ومهاجمة العدو من جبهات جديدة، عديمة الجدوى بالنسبة لهما.
يقدّم التاريخ أمثلةً بارزةً ومهمةً في هذا السياق؛ مثل الخطأ الاستراتيجي لألمانيا النازية في غزو الاتحاد السوفيتي، وخطأ نابليون بونابرت في معركة واترلو بالقتال على أرض أجنبية (بلجيكا)، والأخطاء المتكررة للمسلمين على مدى عقود في محاولاتهم لفتح القسطنطينية، البعيدة عن مراكز الدعم اللوجستي والأراضي الإسلامية، فكل هذه الأخطاء نتجت عن الافتقار إلى العمق الاستراتيجي.
في المقابل، فإن الدولة التي تمتلك عمقًا استراتيجيًا وأراضٍ شاسعةً، أو تلك القادرة على تحويل البلدان المفتوحة أو المتحالفة إلى قواعد لوجستية خلال عملية توسعها، تواجه تحديات أقل بكثير في هذه المجالات.
عجز الکيان الإسرائيلي في حرب شاملة؛ ما الدور الحقيقي لاستعراض القوة العسكرية الإسرائيلية؟
تشبه "إسرائيل" في منطقة غرب آسيا، حاملة طائرات محاصرة في عرض البحر دون ملاذ آمن، حيث يواجه الكيان الصهيوني عبر حدوده المصطنعة محور المقاومة المتأهب، المدجج بالصواريخ المتطورة والطائرات المسيرة، ومن الجهة الأخرى، يحيط بها البحر الممتد.
ستتعرض "إسرائيل" لانقطاع في إمدادات المياه والكهرباء بمجرد تعرضها لهجوم صاروخي محدود، ولن تمتلك أي وسيلة سهلة لاستبدال المعدات، أو تعويض الطاقة، أو إعادة تجميع قواتها، وينطبق الوضع ذاته على حليفتها العسكرية، الولايات المتحدة، في منطقة غرب آسيا.
لكن كيف يمكن التوفيق بين هذه الحقيقة وادعاءات التفوق التكنولوجي للمعدات العسكرية الإسرائيلية؟ وما دلالة هذين العاملين مجتمعين؟ تتجلى الإجابة على السؤال الرئيسي من هنا.
قد تتمكن "إسرائيل" من الانخراط في حرب شاملة، لكن مواردها ستُستنزف بسرعة، وبمعنى آخر، تفتقر "إسرائيل" تمامًا للقدرة على خوض حرب طويلة الأمد، وسرعان ما ستجد نفسها مجردةً من جميع مواردها، وهي الموارد التي سيصعب تعويضها في المستقبل القريب.
إن "الضعف الوجودي ل"إسرائيل" الناجم عن افتقارها للعمق الاستراتيجي"، لا يتجلى في النزاعات المحدودة ذات الطابع القومي، كتلك التي خاضتها ضد الدول العربية، بل يظهر جليًا في المواجهات الشاملة والحاسمة، مثل حرب الـ33 يومًا في لبنان، وحرب الـ22 يومًا في غزة، وفي هذه الصراعات، شهد العالم كيف انهارت "إسرائيل"، وأذعنت للهزيمة بمجرد استنزاف مواردها.
وهذه الحقيقة الجوهرية هي ما تسعى "إسرائيل" وحليفتها الولايات المتحدة جاهدتين لإخفائها، من خلال صنع "فزاعة" من ترسانتها العسكرية، فهذه الفزاعة، بمظهرها المرعب لكن جوهرها هش، يُفترض أن تحجب حقيقة أن "إسرائيل"، حتى لو كانت تخطط لحرب شاملة، لا يمكنها تحمل صراعٍ يمتدّ لأكثر من أيام معدودة، نظرًا لافتقارها للعمق الاستراتيجي.
وكل ما يحتاجه خصم "إسرائيل"، بغض النظر عن حجم قدراته، هو إدراك هذه الحقيقة الاستراتيجية وتوظيفها.