الوقت - بعد الضربة القاسية والمروعة التي تلقاها الکيان الصهيوني من عملية "الوعد الصادق"، وعلى الرغم من جاهزيته الدفاعية الكاملة ومظلة الحماية الغربية، لم يتمكن من منع إيران من تحقيق الأهداف العسكرية المحددة في الأراضي المحتلة، دخلت الأذرع الدعائية الداعمة للکيان إلى الميدان بكل قوتها على الفور، لتجعل هذا الفشل الاستراتيجي شاحباً، بل تظهره بوقاحة على أنه انتصار.
وفي هذه المرحلة، أعلن القادة الصهاينة نجاحاً بنسبة 99% في اعتراض وتدمير الطائرات دون طيار والصواريخ الإيرانية، بل إنهم حاولوا أن يثبتوا من خلال نشر صور مجهولة وغير معروفة، أن قاعدة "نيفاتيم" الجوية فائقة الإستراتيجية كمكان لتخزين طائرات إف-35 لم تتضرر كثيراً، وظلت تعمل کالمعتاد.
كما تم نشر صور غير مثبتة لاعتراض الطائرات الحربية الإيرانية دون طيار وصواريخ كروز، وحتى هذه الفيديوهات الزائفة كانت قليلة العدد.
لكن هذه المحاولة اليائسة أظهرت عجز الکيان الإسرائيلي عن تغطية هذا الفشل الاستراتيجي والتاريخي في الساعات الأولى، كما أن الحجم الكبير من تصريحات المحللين والسياسيين والرأي العام من كل أنحاء العالم، الذين اعترفوا بانتصار إيران الكبير في تنفيذ هذه العملية من مختلف الزوايا والأبعاد، أفشل المرحلة الأولى من الدعاية الإعلامية للکيان.
ولذلك، فإن الصهاينة العاجزين قد بدؤوا مضطرين مرحلةً أخرى من العملية الإعلامية، وهي التهديد بالاستعدادات لهجوم مضاد على الأراضي الإيرانية.
لكن بناءً على ما سيتم ذکره، فإن هذا السيناريو عقيم وغير قابل للتطبيق لأسباب مختلفة، والكيان الصهيوني غير قادر على تنفيذ هجوم انتقامي.
1- دخول إيران مرحلةً جديدةً من الردع:
من المؤكد أن الفشل الأكبر للكيان الصهيوني في عملية "الوعد الصادق"، والعامل الأساسي الذي يمنع هذا الکيان من اللجوء إلى خيار الرد، هو التحول الملحوظ في حدود الردع في صراع تحديد التوازن الأمني بين طهران وتل أبيب.
بحيث إنه بعد عملية طوفان الأقصى (7 أكتوبر) التي هزت أسس الاستراتيجية الأمنية للکيان، مع وقوع عملية "الوعد الصادق"، شهد هذا الکيان انهيار أسس عقيدته الأمنية-الدفاعية التي دامت عقوداً من الزمن بشكل كامل، والتي قامت على ثلاثة مبادئ: 1- الردع الاستراتيجي، 2- الإنذار الإستراتيجي و 3- النصر الحاسم.
من خلال تنفيذ هجوم عسكري مباشر من أراضيها إلى الأراضي المحتلة، فتحت إيران عملياً فصلاً تاريخياً جديداً في القواعد غير المكتوبة للعلاقات العدائية مع الصهاينة، تخلت خلاله طهران تماماً عن الاعتبارات السابقة للعمل العسكري الفوري على العمق الاستراتيجي للکيان، وعمقت حدود الردع حتى خط الدفاع الأخير للکيان الإسرائيلي.
وعليه، حذّر القادة العسكريون الإيرانيون، بعد التنفيذ الناجح لعملية العقاب القاسية للکيان الصهيوني، من أنه إذا فكّر قادة هذا الکيان أو حلفاؤه الغربيون في الإضرار بمصالح ومواطني إيران في الداخل والخارج، فإن إيران ستظهر رد فعل أقوى بكثير من عملية "الوعد الصادق".
وهذا ما يجعل السلطات الغربية والصهيونية تحتاط کثيراً، لأن إيران لم تعد تتردد في شن هجوم مباشر على الأراضي المحتلة، وحسب وسائل الإعلام، فإن بايدن وبعض رؤساء الدول الغربية الآخرين، نصحوا تل أبيب بالامتناع عن أي محاولة لاتخاذ إجراءات مضادة.
2- الضعف غير المتماثل:
بالنظر إلى حالة الردع الجديدة، فإن هناك قضية أخرى مثيرة للقلق بالنسبة لقادة تل أبيب، وهي مستوى الضعف غير المتوازن.
وفي هذا القسم، إذا اقتصرت دائرة العمل ورد الفعل العسكري بين طهران وتل أبيب على مجال الأسلحة غير النووية (لأنه في هذه المرحلة أيضًا، إذا لزم الأمر، يمكن لإيران رفع مستوى الردع بما يتناسب مع التهديد النووي)، ففي العوامل الحاسمة مثل: حجم الأراضي، عدد السكان، الخصائص الوطنية (الحرب هي سبب وحدة الإيرانيين، ولكنها تسبب الانقسام والأزمة السياسية والهجرة العكسية في الکيان الإسرائيلي)، اجتياز عصر الحروب الكلاسيكية (صواريخ إيران وطائراتها دون طيار وقوتها الإقليمية أكثر توافقاً مع الحروب الجديدة)، المرونة الاقتصادية (اعتماد الکيان بشكل أكبر على التجارة الخارجية ومحدودية الشرايين التجارية مقارنةً بالجغرافيا الاقتصادية المتنوعة لإيران) وغير ذلك، فإن درجة الضعف لدى الطرفين غير متماثلة تماماً، وکفة الميزان تميل لمصلحة إيران وعلى حساب الصهاينة.
3- الرسالة الواضحة للاستيلاء على السفينة: مقامرة الإفلاس الاقتصادي
ما لا شك فيه، أنه بالنظر إلى أن المغامرة العسكرية الجديدة ضد إيران تنطوي على مخاطر متزايدة للحرب، فإن الکيان الصهيوني يجب أن يخوض مقامرةً اقتصاديةً كبيرةً.
لأن الأشهر الستة من الحرب غير المثمرة في غزة، تسببت في أضرار جسيمة للاقتصاد الإسرائيلي، ولهذا السبب حذّر بعض المحللين ووسائل الإعلام التابعة للکيان، من أن الوضع الاقتصادي في الأراضي المحتلة ليس قوياً بما يكفي للدخول في حرب جديدة، وفي هذا الصدد، فإن أحد العوامل المؤججة للأزمة، هو اليقين بتزايد الضغوط على الشرايين التجارية للکيان من قبل إيران وحلفائها.
خلال حرب غزة، كان أحد خيارات ضغط المقاومة على الصهاينة لوقف العدوان، هو فرض قيود على حركة أسطول الشحن التجاري التابع للکيان، والذي يعتمد عليه 90% من اقتصاد الأراضي المحتلة.
وفي هذا المجال، قام اليمنيون بشكل خاص بإغلاق طريق التجارة البحرية للکيان مع دول شرق آسيا، من خلال السيطرة على منافذ البحر الأحمر في مضيق باب المندب، ما تسبب في خسائر فادحة وضغط على الاقتصاد الإسرائيلي، واضطر هذا الکيان إلى التوسل لحلفائه الغربيين للتوصل إلى حل.
في غضون ذلك، وحسب بعض التقارير، عوّض الصهاينة جزءاً من ضغوط القيود على تجارتهم البحرية، من خلال التعاون مع الإمارات والسعودية والأردن، وفتح ممر بحري بري من الخليج الفارسي إلى الأراضي المحتلة.
ومع ذلك، فإن الاستيلاء على سفينة حاويات تابعة للکيان الصهيوني في مياه الخليج الفارسي من قبل البحرية التابعة للحرس الثوري الإيراني، كان بمثابة رسالة مهمة للغاية مفادها بأن إيران ستغلق بالتأكيد طرق الالتفاف علی باب المندب، وأن المزيد من الضغوط الاقتصادية تنتظر الأراضي المحتلة.
ومن ناحية أخرى، فإن الأساليب الحربية والدفاعية التي يتبعها الکيان الإسرائيلي ضد تكتيكات المقاومة الهجومية في حرب محتملة، ستشكل ضغوطاً إضافيةً على الاقتصاد الإسرائيلي.
وتشير التقارير إلى أن سعر كل صاروخ دفاعي من طراز "القبة الحديدية" يبلغ 70 ألف دولار، كما يصل سعر المنظومات الدفاعية الأخرى للکيان، مثل مقلاع داوود، إلى مليون دولار؛ ومن أجل التعامل مع الصواريخ والطائرات دون طيار الإيرانية الرخيصة التي ستهاجم الأراضي المحتلة على نطاق واسع، فإنها ستکلف الکيان أرقاماً مذهلةً، وكما أعلنت وسائل الإعلام الصهيونية، فإن الصهاينة خسروا مليار دولار في ليلة واحدة فقط في مواجهة عملية "الوعد الصادق".
4- مرافقة محور المقاومة في المراحل القادمة:
من المؤكد أن عملية الوعد الصادق، التي أرست معادلات أمنية جديدة في المنطقة، نفخت روحاً جديدةً في الروح القتالية لقوى المقاومة، وهذه القوى تعيش وتستوعب الآن مستوى مختلفاً من المواجهة العسكرية الإيرانية، باعتبارها القوة الرئيسية الداعمة للمقاومة، مع الکيان الإسرائيلي.
في حرب غزة، تم تشكيل استراتيجية التعاون المشترك لقوى المقاومة تحت عنوان "وحدة الساحات والميادين"، لكن تحالف المقاومة لم يحرك جميع الجبهات بالتساوي وبأقصى طاقته، انطلاقاً من رؤية منع اتساع نطاق الحرب.
لكن الصراع المباشر بين إيران والكيان الصهيوني، سيؤدي بالتأكيد إلى تفعيل وحدة الساحات إلى أقصى حد، وهذا أمر لا ينبغي لقادة الصهاينة أن يتهاونوا فيه.
5- حكومة الحرب في تل أبيب تتخطى عتبة التحمل:
منذ بداية عملية طوفان الأقصى منتصف تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي وحتى الآن، أحد العناصر الحاسمة في السلوك العسكري للكيان الصهيوني، هو كفاح نتنياهو من أجل البقاء ومنع انهيار حكومته المتطرفة والمهزوزة.
فبينما كان نتنياهو وزملاؤه في حكومة اليمين، يواجهون أزمة الاحتجاجات الشعبية ضد قانون الإصلاح القضائي لأشهر متتالية، أدى حدوث عملية طوفان الأقصى إلى موجة أخرى من الانتقادات واسعة النطاق تجاه الأداء الأمني لحكومة اليمين، ما اضطره إلى شن حرب واسعة النطاق ضد مقاومة غزة من أجل استعادة مصداقيته السياسية.
وبعد أشهر من العمليات العسكرية غير المثمرة وتكبدها العديد من الخسائر المالية والبشرية، أدى عدم قدرتها على الوفاء بوعدها بإطلاق سراح السجناء وتدمير حماس، إلى بدء جولة جديدة من الاحتجاجات الداخلية واستقالة بعض وزراء حكومة الحرب.
ونتيجةً لذلك، حسب العديد من المحللين، كانت الإجراءات الانتحارية التي جرت في الأسابيع الماضية ضد المصالح والمسؤولين العسكريين الإيرانيين في سوريا، محاولة من نتنياهو لتوسيع الحرب ونقل الأزمة إلى الخارج وإشراك الولايات المتحدة بشكل أكبر في الحملة العسكرية، من أجل البقاء في السلطة.
لكن رد الفعل الإيراني العنيف وغير المتوقع في تنفيذ عملية "الوعد الصادق"، أحبط کل خطط نتنياهو، وأدت محاولاته لاختلاق بعض الإنجازات إلى فشل ذريع، وضع بقاء مجلس الوزراء الحربي في خطر أكبر.
لقد تحول نتنياهو من بطل البناء الاستيطاني والأمن للصهاينة، إلی رمز لفشلين تاريخيين، هما طوفان الأقصى والوعد الصادق، والآن، حتى الزعماء الغربيون يحذرون نتنياهو من أن يأخذ على محمل الجد وعد إيران برد أقوى وأن يتجنب المزيد من المقامرة، لأنه قد يُسجَّل باسمه العار التاريخي المتمثل بـ "الحكومة الأخيرة للکيان المتدهور".
6- العزلة الدولية غير المسبوقة والهزيمة الناعمة لـ "إسرائيل":
بقدر ما جعلت العملية العسكرية التي قام بها الکيان الصهيوني في غزة، وجه هذا الکيان الإجرامي أكثر بغضاً في أذهان العالم من ذي قبل، بل أدت إلى احتجاجات شعبية واسعة النطاق في قلب الدول الغربية التي تدعمه تاريخياً، لاقت عملية الوعد الصادق الإيرانية ترحيباً لدى أحرار العالم، وخاصةً بين الشعوب الإسلامية.
حالياً، يعيش الصهاينة الفترة الأكثر عزلةً في تاريخهم، وهم معروفون أكثر من أي وقت مضى بأنهم سبب عدم الاستقرار والجريمة والعدوان والاحتلال في فلسطين وفي المنطقة، ونتيجةً لذلك، كلما قرعوا طبول الحرب، كلما غرقوا في مستنقع العزلة الدولية.
في المقابل، فإن خطاب المقاومة يجعل موقف الجمهورية الإسلامية أكثر مبرراً وشعبيةً في المجتمعات الإسلامية والساحة الدولية.