الوقت - إذا نظرنا إلى الأمن، باعتباره أعلى هيكل تنظيمي في أي مجتمع، کمبنى، فإن اللواء قاسم سليماني، حسب كثير من المحللين، كان مهندس الأمن المعاصر في إيران والمنطقة.
ما بناه اللواء سليماني مألوف لدى أعين المتابعين، لكن القليل من الناس يتساءلون أن مهندس هذا البناء صممه على أي أرض وبأي مواد وبأي مخطط.
من أجل فهم تفاصيل بنية بناء القوة في إيران والنظام الإقليمي المحيط بها، يجب على المرء أولاً أن ينظر إلى الوضع المفروض على هذه المنطقة، ومن ثم فهم هندسة المقاومة كقوة رد فعل لهذا الوضع، وأخيراً النظر إلى الموقع الجديد للقوات النشطة، لمعرفة كيفية بناء هذا المبنى.
الهندسة العكسية لعقيدة بن غوريون
منذ بداية احتلال فلسطين، حدد الکيان الصهيوني استراتيجيةً حيويةً لحصانته من التهديدات المحيطة به.
انطلاقاً من الاستراتيجية التاريخية للکيان الإسرائيلي، والتي تعرف باستراتيجية بن غوريون (مؤسس "إسرائيل" وأول رئيس وزراء لها)، فإن المبدأ الأساسي هو نقل الأزمة من داخل فلسطين المحتلة إلى خارج الحدود، وقد شكلت هذه الاستراتيجية الركيزة الأساسية لاستراتيجية الکيان الصهيوني منذ قيام "إسرائيل" عام 1948.
منذ بداية قيام الکيان، اعتبر خطر العزلة تهديداً خطيراً لحكام الصهاينة، وبالنظر إلى هذا التهديد، اقترح دافيد بن غوريون "مبدأ تحالف المحيط" (Alliance of theperiphery) ضد تحالف الدول العربية، وكان الإطار الرئيسي لهذا المبدأ هو توسيع العلاقات مع الدول الإسلامية غير العربية.
ترتكز الركائز الثلاث الأساسية للاستراتيجية الطرفية ل"إسرائيل"، على الركائز العسكرية والاستخباراتية والدبلوماسية، والتي استخدمت فيها استراتيجيات المفاجأة ونقل الحرب إلى أرض العدو وأخذ زمام المبادرة، واليوم، بعد مرور ستة عقود، تتم متابعة هذا المبدأ بعد تغييرات في مصادر التهديد.
ووفقاً لهذه المبادئ، فإن البيئة المحيطة بـ "إسرائيل"، بما في ذلك الحكومات المتحاربة، يجب أن تصبح محور الأزمة حتى تنتهي قضية احتلال فلسطين وإزالتها من جدول الأعمال، ولذلك، وفقاً لهذه الاستراتيجية، من الضروري ألا تبدأ الحرب ضد الصهاينة داخل فلسطين، وفي المرحلة القادمة إذا حدثت حرب فيجب تصديرها.
يشكل مبدأ "المفاجأة" و"الانتصارات الخاطفة"، الركيزتين الأساسيتين لعقيدة بن غوريون، من حرب عام 1967 (باستخدام مبدأ المفاجأة والانتصار في ستة أيام على الحكومات العربية)، إلى حرب يوم الغفران في عام 1973 والهجوم على لبنان في عام 1981، تمكن الکيان الإسرائيلي من تنفيذ جميع مكونات عقيدة بن غوريون بنجاح.
وبهذه الطريقة، مع احتلال صحراء سيناء، تم إبعاد مصر، باعتبارها أهم دولة عربية تدعم فلسطين، عن القضية الفلسطينية والصهاينة، وبتصديرها الأزمة، حلت تل أبيب القضية الفلسطينية على مدى عقود في العالم العربي، ووسعت احتلال فلسطين.
ومع تشكيل محور المقاومة بقيادة إيران، واستشهاد اللواء سليماني علی وجه الخصوص، انعكست عملية انتصارات الکيان الإسرائيلي في الحرب، وفي العقدين الأخيرين، اقترح اللواء سليماني "الهندسة العكسية" لعقيدة بن غوريون على المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وأعدّ للمقاومة الفلسطينية بديلاً لعقيدة الصهاينة.
وعليه، فإذا كان على الکيان أن يوجّه الأزمة إلى الخارج، فإن المقاومة يجب أن تعيد الأزمة إلى الداخل الفلسطيني، أي المكان الذي تنطلق منه الأزمة، وحسب عقيدة المقاومة، فإن احتلال فلسطين أولوية مركزية، ويجب أن تعود هذه القضية إلى مكانها الأصلي.
والمبدأ الثاني للهندسة العكسية لاستراتيجية بن غوريون، تم تطبيقه بشكل جيد ضد الصهاينة في السنوات الأخيرة، فإذا كان مبدأ المفاجأة يعتبر أحد الركائز المهمة في عقيدة بن غوريون، ففي معارك 2000 و2006، كانت مفاجأة الإسرائيليين عنصراً أساسياً في الاستراتيجية العسكرية للمقاومة، والتي حددت المصير النهائي لمعركة 2006.
"إسرائيل" ووحدة الساحات.. أزمة لا نهاية لها
لقد استخدم مبدأ المفاجأة في أعلى مستوياته يوم 7 أكتوبر، وعملية طوفان الأقصى.
وأخيراً، المبدأ الثالث هو عكس ما يفعله الكيان الصهيوني في المعارك السريعة والانتصارات الخاطفة، ففي عقيدة المقاومة، ينبغي فرض معارك وحروب استنزاف طويلة الأمد على الکيان الإسرائيلي حتى يصاب بالتآکل، لتنكشف أكبر نقطة ضعف في الکيان الصهيوني التي تعتمد عليها حياته.
لقد كانت المقاومة مرنةً للغاية في تصاميمها التكتيكية، في مواجهة التهديدات الناشئة في المنطقة من قبل الولايات المتحدة والکيان الإسرائيلي، وقد ظهر ذلك في عام 2014 في دعم إيران للعراق الذي كان معرضاً لخطر الهجوم من قبل "داعش"، ودعم حماس في حصار غزة من قبل الکيان الإسرائيلي، وعدم التردد في دعم سوريا في الحرب المعقدة التي استمرت لعدة سنوات.
إن الواقع الذي يواجهه القادة العسكريون للكيان الصهيوني هذه الأيام، هو نتيجة أخرى لقرارات اللواء سليماني، حيث إن تنسيق المقاومة على شكل شبكة ضد الکيان الإسرائيلي خلال الحرب الأخيرة على غزة، هو حدث أطلقت عليه السلطات الإسرائيلية اسم "تقارب الساحات".
وفي هذا الصدد، كتبت مجلة فوربس في أحد تقاريرها: "لقد أدت الاشتباكات الأخيرة مع الجماعات المدعومة من إيران على مختلف الجبهات، إلى استنتاج البعض أن أيام ما تسمى "الصراعات المحدودة" قد ولت بالنسبة ل"إسرائيل"، وقد قال وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت للصحفيين في مؤتمر صحفي يوم 20 أبريل: "هذه نهاية عصر الصراعات المحدودة، إننا نواجه حقبةً أمنيةً جديدةً، حيث قد يكون هناك تهديد حقيقي من جميع الساحات في نفس الوقت".
وأضاف: "لقد عملنا لسنوات على افتراض أنه يمكن إدارة صراعات محدودة، لكن هذه ظاهرة في طريقها إلى الاختفاء، واليوم هناك ظاهرة كبيرة، وهي تقارب الساحات".
أيضًا، وفقًا لراز زيمت، المحلل الإسرائيلي في المجلس الأطلسي، "واجهت إسرائيل في أبريل وحده إطلاق صواريخ من لبنان وسوريا وقطاع غزة، وسط اشتباكات في المسجد الأقصى، وهجمات ضد الإسرائيليين في الضفة الغربية؛ وهي القضية التي جعلت غالانت يطلق على إيران لقب "القوة الدافعة لتقارب الساحات".
کذلك، عندما ذكر الأمين العام لحزب الله مسألة "تقارب الساحات" في 13 نيسان/أبريل، قال: "هذا العام، تحدث تطورات وأحداث مهمة جداً على المستوى العالمي، وعلى المستوى الإقليمي، وعلى المستوى الفلسطيني، وكل هذه التطورات تؤكد بشكل ما نضالنا الطويل في محور المقاومة ضد إسرائيل".
عدو يجب احترامه
لقد أشاد أعداء الشهيد سليماني به لدوره التاريخي، قبل بضع سنوات، قامت مجلة "ذا نيو يوركر" الأمريكية بالتحقيق في خصائص القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، من خلال تصريحات المسؤولين الأمريكيين وعملاء وكالة المخابرات المركزية.
وفي هذا التقرير الذي يحمل عنوان "قائد الظل"، قدّم جون ماغواير، الضابط السابق في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA)، اللواء سليماني باعتباره أقوى قائد عسکري في غرب آسيا لم يسمع عنه سوى القليل من الناس.
وفي تعليق آخر، اعترف الجنرال ماكريستال، قائد القوات الأمريكية في أفغانستان، بقدرات القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، وقال: إن قاسم سليماني هو أحد القادة العسكريين الأكثر كاريزميةً في العالم، ولكن لا أحد يعرفه بشكل صحيح.
ويُذكر أن الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، قال في أحد لقاءاته مع رئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي عام 2014، عن اللواء سليماني: "إنه عدوي، لكني أكن له احتراماً خاصاً".
وحسب بعض ما نشر من تقارير، قال جون كيري، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، في أحد لقاءاته مع وزير خارجية إيران السابق: "لمرة واحدة، أودّ أن أرى قاسم سليماني عن قرب".
ونُقل أيضًا عن زلماي خليل زاد، السفير الأمريكي السابق في أفغانستان، قوله: على عكس السلطات الأمريكية التي تتهم سليماني بالترويج للحرب، كان نشطًا في إحلال السلام في المنطقة.
بدوره قال الجنرال بتريوس، الرئيس السابق لهيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكي، وهو مسؤول كبير آخر في أمريکا، عن اللواء سليماني: قاسم سليماني شخص قادر للغاية، وواسع الحيلة، وعدو محترم.
وجاء في كتاب "مولود شهر مارس": يقول يوسف بن علوي وزير خارجية عمان: "في الوقت الذي كان فيه الأمريكيون يقتربون من إيران بشأن قضية الاتفاق النووي، عُقد اجتماع بحضور جون كيري وزير الخارجية الأمريكي آنذاك ووزراء الخارجية العرب، وخلال الاجتماع، بدأ الوزراء العرب يتذمرون، وزير الخارجية السعودي، ووزير خارجية البحرين والكويت والإمارات وغيرهم، كل منهم على حدة، كانوا يتذمرون من جون كيري، ويقولون: لقد بعتنا للإيرانيين".
ويضيف بن علوي: "خلال هذه المحادثات، غضب جون كيري فجأةً، وضرب ملفاً کان في يده على الطاولة، وقال للعرب: "أليس عندكم جميعاً شخص مثل الجنرال قاسم سليماني ليأتي لمحاربة الإرهاب؟ أنتم جالسون هنا وتريدون أن يقاتل الأمريكان مع الإيرانيين بدلاً منکم؟ إن من وفّر الأمن لبلدانكم وأعطاكم الحياة السياسية، هو الجنرال سليماني وإيران، هل تنتقدونني الآن؟! على كل واحد منكم أن يذهب ويعطي مئة وسام للجنرال سليماني، الذي احتفظ لكم ببلدانكم".