الوقت - ذهب كيان الاحتلال في حربه على قطاع غزة إلى أبعد مستوى من التصعيد والوحشية، فاستهدف كل شيء، ودمر البنية التحتية التي قد تؤمن الاحتياجات الأساسية للفلسطينيين عند عودتهم إلى القطاع بعد نهاية الحرب، فبدا مستحيلا مع كم الدمار هذا أن يعيش أحد في تلك المنطقة، كما اتضح الهدف المباشر من هذه الحرب وهو تهجير الفلسطينيين من أرضهم، من أجل تصفية القضية الفلسطينية.
وقد دعا كيان الاحتلال في الأيام الأولى للعدوان، جميع المدنيين في النصف الشمالي من قطاع غزة، أي أكثر من مليون نسمة، إلى الانتقال نحو جنوب القطاع، وحضهم، على "عدم الإبطاء"، وهو ما أكدته الأمم المتحدة بأنه تم إبلاغها أن الكيان يريد أن يتحرك جميع السكان إلى جنوب القطاع، وهو الأمر الذي رفضته القيادة الفلسطينية بشدة بقولها: إن "التهجير القسري لسكان غزة خط أحمر لا يمكن تجاوزه".
القلق الأردني المتزايد
وقفت الأردن كما كل الدول المحيطة بفلسطين موقفاً رافضا للحرب على قطاع غزة، والعدوان الإجرامي الوحشي الذي يشنه كيان الاحتلال على الفلسطينيين في القطاع، لكن الموقف الأردني كان أكثر خصوصية، وذلك لصلته المباشرة بتداعيات تلك الحرب، إذ إن للأردن حدودا مشتركة مع غزة والضفة الغربية المحتلة، فقد قابل سيناريو تهجير الفلسطينيين برفض شديد.
إن تعاطي الأردن مع القضية الفلسطينية كان جاء على محورين، الأول: هو التعامل مع الموضوع الفلسطيني من حيث هو قضية مستقلة، إذ تدعم الأردن الحقوق الفلسطينية وتدعو لإقفال هذا الملف بإنجاز حل الدولتين والاعتراف بالحقوق الفلسطينية، والمحور الثاني هو تبعات اعتداء كيان الاحتلال على الفلسطينيين، والحروب التي يشنها عليهم، وانعكاس ذلك على الأردن، وما له من هواجس ومخاوف أمنية واقتصادية و اجتماعية، ولوجستية.
فقد توجهت التصريحات الرسمية الأردنية منذ بدء العدوان على غزة باتجاه الرفض المطلق لأي خطوة تهدف لتهجير الفلسطينيين، أو أن يؤدي تصاعد وتوسع الصراع إلى تدفق اللاجئين من الضفة الغربية إلى داخل الحدود الأردنية، إذ حذر العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في بيان مشترك من كارثة إقليمية في حال اتساع نطاق هذه الحرب، وأكدا موقف الأردن ومصر الموحد والرافض لسياسة العقاب الجماعي من حصار أو تجويع أو تهجير للأشقاء في غزة، مشددين على أن أي محاولة للتهجير القسري إلى الأردن أو مصر مرفوضة.
كما أكد العاهل الأردني وجوب التعامل مع الوضع الإنساني داخل حدود قطاع غزة والضفة الغربية، مشيرا إلى أنه لا يمكن استقبال اللاجئين في الأردن، ولا في مصر جراء الحرب على غزة، وهذا خط أحمر، إذ التقى قيادات الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو) وحكومة بلجيكا في بروكسل، لبحث التطورات في قطاع غزة، وللضغط على المجتمع الدولي من أجل وقف إطلاق النار، والسعي من أجل إدخال المساعدات الطبية والإغاثية إلى غزة، بشكل دائم ومستمر، وتحذير القيادات العالمية من مخاطر التهجير القسري الذي تسعى "إسرائيل" إليه في الأراضي المحتلة حسبما أعلن الديوان الملكي الأردني.
وقد أورد الملك عبد الله الثاني هذه التحذيرات خلال لقائه وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في شهر أكتوبر الماضي بعد مخاوف في الأوساط الأردنية من إحياء آمال اليمين الإسرائيلي المتطرف بتنفيذ خطط التهجير، وطروحات "الوطن البديل"، عبر تصدير الأزمة إلى دول الجوار ومفاقمة قضية اللاجئين تحديداً على حساب مصر والأردن.
فالأردن ينادي بحل الدولتين، لذا انطلق القلق الأردني من الخشية من محاولات كيان الاحتلال إفراغ الضفة وغزة من ساكنيها، وترحيلهم إلى الأردن ومصر، ما يعني تصفية القضية الفلسطينية، إذ أعلن الأردن رفضه المطلق أن يكون "الوطن البديل" للفلسطينيين، ضمن ما عرف بـ"صفقة القرن"، التي روج لها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، إذ يبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين في الأردن وفق الأمم المتحدة نحو 2.2 مليون لاجئ، ويشكل الأردنيون من أصل فلسطيني نحو نصف عدد سكان المملكة.
وقد عانى الأردن سابقاً من تبعات الهجرة واللجوء، إذ استقبل فلسطينيين ولبنانيين وعراقيين وسوريين خلال العقود الماضية، وكلهم لم يعودوا، الأمر الذي شكل عبئاً كبيراً عليه، على مختلف الأصعدة الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية أيضا، فقيام دولة فلسطينية يمكن أن يشكل ركيزة أساسية للأمن الوطني في الأردن.
ومن جانب آخر تتخوف الأردن من استثمار الأحزاب والجهات المرتبطة بالإخوان المسلمين لتبعات الحرب، بدءا من مظاهر الاحتجاج على العدوان، وانتهاء بتوسيع قاعدتها الشعبية فيما لو تم التهجير، وهو ما سيؤدي إلى نشوء كيان موازٍ لا يمكن التنبؤ بمستوى طموحه السياسي، وبطريقته في الوصول إلى غاياته.
الحلول الأردنية
لم يكن مستغربا الموقف الرسمي الأردني تجاه الحرب، وتجاه قضية التهجير، إذ أكد رئيس الوزراء الأردني بشر الخصاونة أن كل الخيارات مطروحة على الطاولة بالنسبة للأردن في إطار الموقف المتدرج في التعاطي مع العدوان الإسرائيلي على غزة وتداعياته، مشددا على أن أي محاولات أو خلق ظروف لتهجير الفلسطينيين من غزة أو الضفة الغربية خط أحمر، وسيعدّه الأردن بمثابة إعلان حرب، فبدأ الأردن بلهجة صارمة بطرح الخيارات كافة، ومنها العمل العسكري، وبالفعل فقد شهدت الحدود مع فلسطين تحركات عسكرية أردنية في نوفمبر الماضي كرسالة لكيان الاحتلال بجدية الأردن واستعداده لتنفيذ خيار هدد به إذا ما تم تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية تجاه الأراضي الأردنية.
إن الأردن سيقوم بكل ما من شأنه إيقاف الحرب، لإبعاد شبح تهجير الفلسطينيين باتجاه الأردن، ولا سيما بعد انتهاء الهدنة وعودة العدوان العسكري الاسرائيلي على قطاع غزة، الذي جدد إثارة تلك المخاوف، لذا نرى تحركات متسارعة للحكومة الأردنية بهذا الاتجاه، إذ تندرج زيارة وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي إلى واشنطن في هذا السياق، وقد سبق الزيارة اتصال هاتفي تشاوري للملك عبد الله الثاني مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، حيث لم تعلن الحكومة الأردنية أي بيان عن مضمون هذا الاتصال.
أشارت وسائل إعلامية إلى أن القيادة الأردنية بحثت بصورة خاصة توسيع نطاق المساعدات وجعلها دائمة إلى المنكوبين في قطاع غزة، وأن الملك الأردني على الأرجح مهتم جدا بفتح ممر خاص لتقديم مساعدات إغاثة عاجلة وطارئة لأهالي القطاع تعزيزا لصمودهم ودون الحاجة لاستخدام معبر رفح، وهو أمر يعني أن الأردن يسعى للقيام بدور لوجستي خاص في نقل المساعدات وتأمينها إلى أهالي القطاع، وذلك يصب في جهود منع التهجير، فغياب المساعدات العاجلة والكافية للفلسطينيين قد تدفع بهم إلى الدول المحيطة.
ويحاول الأردن العمل مع الأمريكيين، اللاعب الرئيس والمؤثر الأساسي في سير الأحداث، ومع المنظمات الأممية من خلال الضغط على كيان الاحتلال لتأمين خط بري من منطقة المعابر والجسور الأردنية في الأغوار مباشرة إلى قطاع غزة عبر المعبر الجنوبي للقطاع في الأراضي المحتلة، إذ يأمل الأردن بإنجاز هذا التفويض اللوجستي السياسي، لتكثيف وزيادة كميات المساعدات من الأردن، والمنظمات الأممية المهتمة والمختصة التي عقدت اجتماعا تشاوريا في عمان الأسبوع الماضي.
وبضغط الأردن بثقله الدبلوماسي للقيام بدور لوجستي وسياسي موسع على نطاق الإغاثة والوضع الإنساني والمساعدات الطبية والغذائية، إضافة إلى نقل المصابين والجرحى لمعالجتهم قدر الإمكان، من خلال إيجاد ممر بري للشاحنات الأردنية يذهب من الأراضي الأردنية إلى جنوب قطاع غزة مباشرة، وعلى الأرجح أنه بعد الاتصال التشاوري حصل الأردن على وعود من الرئيس بايدن لتوسيع نطاق المساعدات وجعلها أكثر ديمومة وأكثر كثافة، وهو ما أشارت إليه اجتماعات ملكية تشاورية أردنية مؤخرا.
إن إيقاف الحرب مطلب أردني أساسي، لغايات إنسانية أولاً، ولمصلحة أردنية ثانياً، وعندما لم تفلح الجهود المبذولة في إيقاف الحرب، والحد من تداعياتها، وجد الأردن أنه مضطر للتعامل مع الأمر الواقع، والمبادرة لوضع حلول لإبعاد الأردن عن الوقوع فيما يخشاه.