الوقت- منذ شهرين، يشهد قطاع غزة تواصلًا للعمليات العسكرية من قبل "إسرائيل"، ما يتسبب في سقوط آلاف الضحايا ناهيك عن عشرات آلاف الجرحى، ويؤدي إلى نزوح عدد كبير من المدنيين، تعيد هذه الأحداث إلى الأذهان مشاهد مؤلمة من فترة الحرب العالمية الثانية، وفي هذا السياق، يبرز الغياب الواضح لتحركات فعّالة من قبل مصر، الدولة العربية الأكبر والجارة الفورية لقطاع غزة، لوقف هذا النزاع وحماية المدنيين، فعليها القيام بدور أكبر في إيقاف هذه الأحداث الكارثية، ومن جهة أخرى، يثير قرار رفض مصر توفير المساعدات الإنسانية الضرورية، مثل الدواء والماء، عبر معبر رفح تساؤلات حول التزامها بالمساعدة الإنسانية في ظل هذا النزاع، ويبرر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي هذا القرار بتعرض المعبر لأربع هجمات من جانب "إسرائيل"، ويرفض الاعتراف بأن المعبر يعتبر منطقة سيادية مصرية، ما يفتح الباب أمام مزيد من التساؤلات حول الدور الإنساني والسيادي لمصر في هذا السياق الصعب.
تهديد يواجه العلاقات بين مصر والكيان
مرارا، أكدت مصر رفضها لفكرة نقل الفلسطينيين إلى سيناء ورفضها المشاركة في وضع خطة للمرحلة التالية بعد حماس، ويعبّر الرئيس عبد الفتاح السيسي عن شكوكه في إمكانية تحقيق الحرب أهدافها المعلنة، مع عدم استبعاده أن يكون لحماس دور في السلطة المستقبلية في قطاع غزة، وتسربت معلومات وتلميحات إسرائيلية تشير إلى عدم اهتمام بعض الأنظمة العربية، بما في ذلك نظام السيسي، بالإبقاء على حماس في السلطة، ومع ذلك، يشير تقرير إسرائيلي إلى أن الحرب على غزة قد تؤدي إلى هزّة في العلاقة الإسرائيلية-المصرية وتهدد استقرارها.
وفي تقرير حديث يسلط معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب الضوء على توتر العلاقات بين مصر و"إسرائيل" بسبب الأحداث الجارية في قطاع غزة، يأتي هذا التوتر في أعقاب التصريحات التي أدلى بها القياديون الإسرائيليون بخصوص نية إسرائيل تنفيذ عمليات نقل للفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء، وفي هذا السياق، يرى المعهد الإسرائيلي أن هذا التوتر يتزايد بسبب تسريبات ومخططات من جهات إسرائيلية متعددة، ما يؤدي إلى تصاعد التوتر بينهما، وتشير التصريحات والخطط الإسرائيلية إلى رغبتها في "خلق واقع بديل" في قطاع غزة بعد الحرب، ما يثير مخاوف في أوساط عديدة داخل "إسرائيل"، وخاصة من معاهد البحث والتفكير، حيث يتساءلون عن إمكانية تأثير هذا التوتر على العلاقة الإسرائيلية-المصرية واستقرارها بعد انتهاء النزاع، ويشير التقرير أيضًا إلى أهمية التعاون بين "إسرائيل"ومصر في الفترة ما بعد الحرب، مع التأكيد على الحاجة إلى تجنب أي خطوات قد تعرض اتفاقية السلام الموقعة مع الاحتلال للخطر.
وتحت عنوان "إسرائيل ومصر في اليوم التالي للحرب: كيف يمكن سد الفجوات؟"، يقدم تقرير "المعهد" تحليلاً للعلاقات بين "إسرائيل" ومصر خلال فترة الحرب، إضافة إلى توصيات حول تعزيز هذه العلاقة في "اليوم التالي للحرب"، يشير التقرير إلى أن تحليل مواقف مصر خلال النزاع الحالي في قطاع غزة يظهر عدم تفقدها مع معظم الأفكار المطروحة في "إسرائيل" بخصوص النظام الإداري والأمني المستقبلي للقطاع، ويتناول التقرير مواقف مصر التي لا تتفق مع الرؤى الإسرائيلية، سواء على مستوى القيادة المصرية أو في المؤسسات الإعلامية والمعاهد البحثية، ويشدد التقرير على عدم تأييد مصر للأفكار والتصورات التي لا تتضمن تسوية شاملة للقضية الفلسطينية، ومن بين هذه الأفكار التي تواجه تحفظات مصر، طروحات حكم برعاية قوات دولية كالناتو أو الأمم المتحدة، أو حكم برعاية القوى العربية، إلى جانب تكوين حكومة تكنوقراط أو عودة السلطة الفلسطينية لحكم قطاع غزة دون موافقة الفصائل الفلسطينية، وقد أُشير خاصة إلى حركة حماس في هذا السياق.
ومن جهة أخرى، يظهر أن مصر غير مستعدة، ولا تظهر استعدادًا في الظروف الحالية، لتكليف نفسها بدور حفظ الأمن في قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، وتستبعد المشاركة في المراقبة الأمنية أو الانضمام إلى قوات دولية متعددة الجنسيات تقوم بهذه المهمة، وتتجاوز مصر هذه الآفاق، إذ لا تؤيد استمرار وجود "إسرائيل" في القطاع بعد انتهاء النزاع، كما تتصوّر مصر هزيمة حماس ونقل مسؤولية قطاع غزة إلى قوى إقليمية ودولية لفترة غير محددة، بالإضافة إلى ذلك، فإن مصر لا توافق على وجود إسرائيلي في المنطقة بعد الحرب بأي صورة من الصور، سواء كان ذلك بشكل احتلال كامل أو بإقامة حزام أمني أو منطقة عازلة داخل حدود القطاع، ورغم رفضها لاستخدام القطاع من قبل حماس، فإنها لا تفضل تواجدًا إسرائيليًا في المنطقة بعد انتهاء الحرب.
وتشير المعلومات إلى أن هناك جملة من العوامل تقف وراء الموقف المعارض الذي اتخذته مصر، أحد هذه العوامل يتمثل في شكوك مصر تجاه قدرة ورغبة "إسرائيل" في تحقيق هزيمة ساحقة لحماس، التي لا يمكن أن تتعافى منها، والتي تؤدي إلى خلق واقع مستقر وآمن في قطاع غزة على طول الحدود المصرية، ومن جهة أخرى، يعود التخوف إلى إمكان تحول أي وجود إسرائيلي أو أجنبي مؤقت ولفترة غير محددة زمنيًا إلى وجود دائم، بالإضافة إلى ذلك، يعتقد مسؤولون في مصر أن إخراج قطاع غزة من إطار القضية الفلسطينية والتفريق بين حل الأزمة فيه وحل القضية بشكل شامل، لن يكون عادلاً في نظر الفلسطينيين، ما يؤدي إلى عدم حصوله على دعم واسع من الشعب الفلسطيني ويخلق استقراراً طويل الأمد.
ومن جهة ثالثة، يتسبب التخوف من تقويض حماس لشرعية أي حكومة أو إدارة فلسطينية بديلة يتم استبعادها في تأجيج المخاوف المصرية، فيما يتعلق بالعلاقات الإسرائيلية-المصرية، ويؤكد التقرير أن هناك انقطاعًا في التواصل بين قادة "إسرائيل" ومصر منذ بداية الحرب، وبالإضافة إلى ذلك، كان هناك توتر واستياء مصري ناتج عن تزايد الاعتماد الإسرائيلي على الوساطة القطرية في بعض الأوقات بشكل حصري، وتسببت التصريحات الإسرائيلية، سواء من جهات رسمية أو غير رسمية، حول نية "إسرائيل" نقل الفلسطينيين من القطاع في تأجيج المخاوف المصرية من هذا الخطر.
وتُلقب هذه الخطة، التي لم ينفها رئيس الوزراء الإسرائيلي حتى اللحظة، في مصر، على المستويين الرسمي والشعبي، بأنها مؤامرة تهدف إلى تصدير الأزمة إلى الأراضي المصرية، وتنفيذ نكبة ثانية بحق الفلسطينيين وإلغاء القضية الفلسطينية، ويُعتبر هذا المخطط تهديدًا لأمان وسيادة مصر، ما دفع رئيس الوزراء المصري للتصريح بأن هذا الأمر سيواجه برد "حاسم" من مصر، وألمح إلى أن القاهرة تعتبره خرقًا لاتفاقية السلام الموقعة مع "إسرائيل"، ويشير تقرير معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي إلى أن مصر تعمل على صياغة خطة فلسطينية-عربية-إقليمية تعارض الرؤى والتصورات الإسرائيلية لمستقبل قطاع غزة، الهدف من هذه الخطة هو إفشال جهود "إسرائيل" لفصل "قضية غزة" عن الحل الجذري للقضية الفلسطينية.
خطة مصرية بعد الحرب على غزة
تتضمن الخطة المصرية للفترة بعد الحرب خطوطًا عامة، تشمل تشكيل حكومة فلسطينية موحدة ومتفق عليها بشكل فوري في الضفة الغربية وقطاع غزة، تكون تابعة للسلطة الفلسطينية، وإن هذا الإجراء لن يقضي على حماس بشكل كامل، وسيحظى بدعم من دول عربية، وفيما يتعلق بمرحلة ما بعد الحرب، تقدم مصر خطة تشمل خطوات مثل تقديم مساعدات مالية خارجية للسلطة الفلسطينية بهدف إعادة إعمار قطاع غزة، مع تحقيق إجماع فلسطيني حول هذه المساعدات، ما يمكّن السلطة من تولي الحكم في القطاع والحفاظ عليه بشكل فعّال، واستئناف عملية السلام، مع إيجاد أفق سياسي ملموس ومحدد زمنياً لتسوية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وذلك وفقًا لقرارات الأمم المتحدة ومبدأ حل الدولتين.
كذلك، السعي لإقامة دولة فلسطينية خالية من السلاح، بضمان من قوى خارجية مثل قوات حلف شمال الأطلسي أو الأمم المتحدة أو قوات عربية أو قوات أمريكية، وتقوية المعسكر الإقليمي، الذي يتضمن "إسرائيل" أيضًا، بهدف تحقيق السلام والاستقرار والتنمية والتعاون العابر للحدود، ويركز التقرير على أن مصر تظل مهتمة في هذه المرحلة بلعب دور مماثل لدورها السابق بعد الحرب، بما في ذلك الوساطة بين "إسرائيل" والفلسطينيين، وبين حماس وفتح، والمشاركة في عملية إعادة الإعمار، والإشراف على المعابر الحدودية بين غزة وسيناء من النواحي الإنسانية والاقتصادية والأمنية.
من ناحية ثانية، هناك العديد من المصالح المشتركة بين "إسرائيل" ومصر على الرغم من التباينات والخلافات حول "اليوم التالي للحرب"، تتمثل هذه المصالح في إضعاف حماس وتجريدها من قدراتها العسكرية، وإقامة حكومة مستقرة في قطاع غزة ومنع الفوضى التي قد تحوله لقاعدة لتصدير "الإرهاب" ضد ومصر، وتعزيز دور مصر كوسيط أساسي ولاعب مركزي في استقرار الوضع المستقبلي في القطاع، ومحاولة كبح قوة محور المقاومة في الشرق الأوسط، وتعزيز التوجه الإقليمي.
علاوةً على ذلك، هناك مصلحة مشتركة بين مصر و"إسرائيل" في استغلال الظروف التي أحدثتها الحرب الحالية لتحسين الوضع الاقتصادي في مصر وتعزيز الاستقرار، مع أهمية التركيز على هذا الجانب نظرًا للتحديات الاقتصادية الصعبة التي تواجهها مصر، وذلك بتفصيل الأزمة الاقتصادية في مصر وأسبابها الداخلية والخارجية، وخاصةً بعد الأزمة الناجمة عن جائحة كورونا والأزمة الروسية الأوكرانية، هذه الأزمتان تسببتا في تفاقم الأضرار في قطاعي الطاقة والسياحة في مصر، بناءً على ذلك، سيسعى الطرفان لتعزيز التعاون بينهما لتشكيل واقع قطاع غزة في "اليوم التالي للحرب"، وصياغة خطة استراتيجية منسقة لسد الفجوات بينهما، بما يعزز من مصالح كل منهما بمساعدة حلفائهما.
ما الذي على الكيان فعله لإرضاء القاهرة؟
لتحقيق الأهداف التي تم الحديث عنها لتحسين العلاقات المتأزمة بين الكيان والقاهرة، يرى محللون أنه يجب على "إسرائيل" اتخاذ خطوات محددة، كإقناع مصر بأن "إسرائيل" تتعهد بـ "القضاء على حركة حماس" وعدم أن تكون عائقًا لأي استقرار في "الواقع البديل" المستقبلي في قطاع غزة، وأن "إسرائيل" تمتلك القدرة على تحقيق ذلك، وأن تأخذ "إسرائيل" في اعتبارها الموقف المصري الذي يرى أن السلطة الفلسطينية يجب أن تكون الهيئة الحاكمة في قطاع غزة بعد الحرب، حتى لو لم يكن دخول السلطة الفلسطينية إلى القطاع فوريًا وغير مشروط، يجب وضع إطار عام يشمل جدولاً زمنياً لضمان عودتها بشكل مسبق، مع تقديم ضمانات بأن الترتيبات المؤقتة لن تتحول إلى دائمة.
أيضا، يجب على "إسرائيل" أن تعمل جاهدة على خلق أفق سياسي لاستئناف عملية السلام الإسرائيلية-الفلسطينية عندما تسمح الظروف بذلك، ويجب على رئيس الوزراء الإسرائيلي أن يعبر بوضوح بصوته وينفي "المؤامرة المنسوبة لإسرائيل" بأنها تنوي تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء، وإزالة هذه الفكرة من جدول الأعمال، وفي المقابل أهمية أن تأخذ مصر "مصالح إسرائيل" بعين الاعتبار خلال استئناف عملية تسوية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
والمصالح هي أنه يجب تشجيع السلطة الفلسطينية على الموافقة على تجريد قطاع غزة من السلاح واتخاذ خطوات لتعزيز الثقة مع "إسرائيل"، مثل "وقف التحريض على وسائل الإعلام"، و"إصلاح المناهج الدراسية"، و"وقف دفع الأموال لعائلات الأسرى والشهداء"، ويتناسب ذلك مع رؤية إدارة جو بايدن لخلق "سلطة فلسطينية متجددة"، وإذا كانت مصر تعارض حرية عمل عسكري للكيان في قطاع غزة، عليها أن تقدم حلا بديلًا يراعي "المخاوف الأمنية الإسرائيلية"، وأن تسهم في تنفيذ هذا الحل، بما في ذلك موافقة مصر على قيادة قوات عربية مؤقتة في غزة؛ وتعزيز الجهود لوقف عمليات التهريب عبر الحدود مع غزة وضمان تنفيذ الملحق العسكري لاتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية.