الوقت- بشكل غامض ومقلق، تشهد الأوساط الفلسطينية داخل الأراضي المحتلة ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات جرائم القتل، وتسود حالة من الذهول والقلق الكبير بسبب تدهور الوضع الأمني الذي يعاني منه الفلسطينيون وعائلاتهم منذ سنوات طويلة، وقد تجاوزت هذه الجرائم كل الحدود والخطوط الحمراء، وفي سياق يومي مليء بالأحداث القاتمة، تشهد الأراضي الفلسطينية المحتلة حوادث قتل، إصابات، وحالات إطلاق نار هنا وهناك، وتُشيّع الجثامين، وتكثر التهديدات والاتهامات، ويبدو أن غياب الأمن هو الوضع السائد، ويعيش الفلسطينيون في الداخل هذه الحالة الأمنية "المرعبة" التي تسيطر على حياتهم يوميًا، ويصاحب هذا الوضع "إهمال متمادٍ" من قبل الشرطة الإسرائيلية، حيث لا تُفتَح تحقيقات "عادلة" في تلك الجرائم، ولا حتى مُلاحقة مرتكبيها.
تواطؤ خطير من أمن الاحتلال
في كل حادثة قتل، يتجه الانتباه نحو الشرطة الإسرائيلية، التي تثير الشكوك باستمرار بسبب عدم قيامها بأي دور فعّال في الحد من هذه الأعمال العنيفة التي تتزايد بشكل مقلق، وفي الواقع، تشير التحقيقات المتعددة إلى دور الشرطة الإسرائيلية كمدبر ومشجع أساسي للجريمة داخل الأوساط الفلسطينية، وأن الشرطة الإسرائيلية تتجاهل عمدًا مشكلة الأمن وتفلت المسلحين من العقاب. وأحيانًا أخرى، تُيسّر دخول الأسلحة إلى المناطق الفلسطينية أو تُغض النظر عن أعمال العنف وسفك الدماء، وهذه الأمور تثير تساؤلات كبيرة حول دور الشرطة الإسرائيلية في تصاعد الجريمة وعدم احتوائها.
ومؤخراً، توفي الشيخ والإمام سامي عبد اللطيف في حادثة الاغتيال التي وقعت السبت أثناء خروجه من بيت العزاء في مدينة "كفرقرع"، وقد كان هذا الحادث هو آخر حلقة في سلسلة جرائم القتل التي شهدتها المنطقة خلال 24 ساعة فقط، حيث تم تسجيل وفاة شاب وفتى يبلغان من العمر 14 عامًا في حادث إطلاق نار آخر قبل يوم واحد، والذي وقع في المنطقة نفسها تقريبًا، مع ضحيتين جديدتين تُضافان إلى قائمة الضحايا، إذ تم التعرف على هويتهما وهما الشاب فؤاد نبهان نصر الله من قلنسوة وشقيق زوجته الفتى محمد مصطفى عربيد من كفر قرع.
يُذكر أن الشاب فؤاد نبهان نصر الله كان قد احتفل بزفافه في شهر مايو الماضي، بينما كان الفتى محمد مصطفى عربيد طالبًا في الصف التاسع حين وقعت الحادثة الأليمة.
وتزايدت بصورة ملحوظة حوادث القتل في المجتمع العربي منذ بداية العام الحالي، حيث بلغ عدد الضحايا 158 شخصًا، بما في ذلك 9 نساء، وتمثل هذه الأرقام حصيلة قياسية تفوق كل التوقعات مقارنة بالأعوام السابقة، وفي العام الماضي، بلغ إجمالي القتلى 109 أشخاص، في حين تم توثيق أكثر من 111 جريمة قتل خلال عام 2021.
وأصبحت جرائم القتل في المجتمع العربي أمرًا مألوفًا خلال السنوات السابقة، وذلك نتيجة تقصير الشرطة في أداء دورها الفعّال في مكافحة الجريمة المنظمة، وتظهر مؤشرات تشير إلى تورط أجهزة الأمن الإسرائيلية في التواطؤ مع منظمات الإجرام.
وعلى الرغم من جهود القيادات السياسية والاجتماعية في تطوير خطط وتشكيل لجان للحد من جرائم القتل، إلا أن التعقيدات تتزايد بسبب التسهيلات التي تقدمها سلطات الاحتلال للشباب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، مثل حيازة السلاح دون ترخيص، ويبدو أن هذا السلوك يخدم أجندة الأجهزة الإسرائيلية الأمنية والشاباك بغرض ضعف المجتمع العربي في مدن وقرى الداخل من خلال تشجيع جرائم القتل وتسهيل تنفيذها، وهذا يأتي وسط انعدام الثقة في إمكانية معاقبة المجرمين، وتوجه الأغلبية الساحقة من هذه الجرائم نحو أنشطة غير قانونية مثل الربا والسوق السوداء، إضافة إلى تسوية الخلافات والمشاكل بين عصابات الإجرام.
"إسرائيل" هي المستفيد الوحيد
يشير مراقبون إلى أن الاحتلال الإسرائيلي هو الجهة التي تستفيد بشكل أساسي من تفشي جرائم القتل في المجتمع الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1948، والتي اتسع نطاقها بشكل كبير بعد حدوث "هبة الكرامة" منتصف عام 2021.
وفي هذا السياق، أصدر رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، إسماعيل هنية، نداءً إلى مكونات الشعب الفلسطيني في الأراضي الداخلية المحتلة، داعيًا إياهم إلى وقف مسلسل العنف ووقف سفك الدماء، محملا الاحتلال الإسرائيلي وأجهزته المسؤولية الكاملة عن تصاعد حوادث الجريمة.
هنية أشار إلى أن "الاحتلال وأجهزته الأمنية يلعبون دورًا خبيثًا وخطيرًا في تصاعد حالات القتل بين الفلسطينيين في الأراضي الداخلية المحتلة"، وقد شدد على أن الاحتلال يستخدم تلك الجرائم كوسيلة لتشتيت وتشغيل انتباه الشعب الفلسطيني في الداخل، بهدف إلهاء المجتمع الفلسطيني عن قضيته ومساره الوطني وعن ارتباطاته الدينية والتاريخية مع شعب فلسطين في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس.
هنية أيضًا أكد أن الاحتلال يتحمل المسؤولية الكاملة عن تلك الجرائم، وفي الوقت نفسه شدد على أهمية دور الشرائح السياسية والفكرية والحزبية وكل أفراد المجتمع في العمل على حماية النسيج الوطني الفلسطيني وضمان تجنب حدوث المزيد من الجرائم وفقدان المزيد من الأرواح.
وهنية أكد على أن الوضع الحالي يتطلب موقفًا ثابتًا وقويًا من الجميع، مشددًا على ضرورة اتخاذ استراتيجية متكاملة لوقف تصاعد جرائم القتل وحماية أبناء الشعب الفلسطيني من المزيد من الدماء التي تسيل.
نديم يونس، الناشط في الداخل المحتل، يشير إلى أن "إسرائيل" خلقت ظروفًا مناسبة لجرائم القتل وإطلاق النار في الداخل المحتل. ويضيف إن الفقر واليأس يهيمنان على فئة واسعة من الشباب في الداخل المحتل، ما يجعلهم عرضة للاستغلال والابتزاز من قبل منظمات إجرامية في المنطقة، ويشير إلى أن انخراط هؤلاء الشباب في عالم الجريمة يتسم بالسهولة بسبب توافر الأسلحة وسهولة الوصول إليها وشرائها.
ويحذر كثيرون من احتمال تصاعد جرائم القتل في الداخل المحتل، ويشير إلى أن سياسة الاحتلال تجاه فلسطينيي الداخل ومحاولاته المستمرة لتفتيت هذا المجتمع تتطلب توحيد الحالة الفلسطينية لمواجهة الاحتلال ومخططاته الهادفة إلى تصفية قضيتهم الوطنية وتفتيت مجتمعهم.
في ظل محاولات شرطة الاحتلال تصدير رؤيتها بأنها عاجزة ولا تمتلك الأدوات اللازمة لملاحقة رموز الجرائم بين صفوف المجتمع الفلسطيني، يؤكد مراقبون أن هذا يشجع منظمات الإجرام على استغلال هذه الظروف للاستمرار في جرائمها وتوسيع رقعة تجارة السلاح، وأكد المحامي خالد زبارقة، عضو اللجنة الشعبية في مدينة اللد بالداخل المحتل، أن الهدف من نشر هذا السلاح هو تأجيج الفتنة بين أهالي الداخل وما يترتب على ذلك من اندلاع مشاكل تؤدي حتمًا إلى ارتكاب جرائم قتل.
وبالتالي، إنّ ما يحدث في الداخل يأتي ضمن مخطط عميق لدى حكومة الاحتلال، وخاصة بعد "هبة الكرامة"، إذ لم ترق لها الحالة الوطنية التي عبّر عنها فلسطينيو الداخل على إثر اندلاع معركة "سيف القدس" بين المقاومة في غزة وجيش الاحتلال، كما أن جرائم القتل في المجتمع الفلسطيني ليست حالة طبيعية، بل هي حالة زرعها الاحتلال داخل هذا المجتمع، وإن الاحتلال يهدف من خلال ذلك إلى تحقيق أهداف سياسية، أهمها تدمير النسيج الاجتماعي لدى المجتمع الفلسطيني وتحويل انتباهه عن القضايا الوطنية الكبرى، مثل قضية القدس والمسجد الأقصى.
دمٌ رخيص بالنسبة لتل أبيب
في ظل تصاعد وتفشي الجريمة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، واستناداً إلى معطيات رسمية نشرتها شرطة الاحتلال، نُشِرَت في صحيفة "يديعوت أحرونوت" تحت عنوان "الدم الرخيص"، يتضح أن حالات جرائم القتل في الداخل المحتل تعد أكثر بثلاثة أضعاف من مثيلتها في المجتمع الإسرائيلي.
وعلى الجانب المقابل، يُلاحظ أن حالات تقديم لوائح اتهام ضد المجرمين في الداخل المحتل تكون أقل بمعدل أربعة أضعاف من مثيلتها في مجتمع العدو، وقد وصف رئيس مركز أمان لمكافحة العنف، كامل ريان، ما يعيشه فلسطينيو الداخل من أحداث عنف بأنها "النكبة الأكبر"، مشيرًا إلى أن المجتمع العربي في الداخل المحتل يشهد سنوياً قرابة 35 ألف حالة إطلاق نار على المنازل والمؤسسات والمرافق العامة.
وعلى أساس ما ذُكر، إن الأمر الأخطر يتمثل في انتشار العصابات، حيث تقوم هذه العصابات بإرهاب المواطنين واستيلائها على أموالهم بالإكراه، وقد كشف أن إحدى هذه العصابات تتألف من قرابة 200 فرد مسلح مجهزين بالكامل بالأسلحة والعتاد، وهذه الجرائم والعصابات التي تنشط في الداخل المحتل تمثل تحديًا أمنيًا واجتماعيًا خطيرًا، وهناك عدة عوامل تساهم في هذا الوضع:
التسهيلات في امتلاك السلاح: "إسرائيل" تفرض قيودًا صارمة على امتلاك السلاح بشكل قانوني للفلسطينيين في الداخل المحتل. ومع ذلك، يتم تهريب الأسلحة إلى المنطقة بطرق غير قانونية، وتكون متاحة بسهولة للعصابات والجماعات المسلحة.
الفقر والبطالة: الفقر وارتفاع معدلات البطالة تعززان انخراط الشباب في الجريمة، ويمكن أن يكون اللجوء إلى الجريمة وسيلة للبعض للحصول على المال.
التوتر السياسي والاجتماعي: التوترات السياسية والاجتماعية تلعب دورًا كبيرًا في تصاعد الجريمة، وهذا يمكن أن يكون نتيجة لتصاعد التوترات الفلسطينية والتوترات الداخلية.
عدم الثقة في الشرطة: الفلسطينيون في الداخل المحتل يعتبرون الشرطة الإسرائيلية غير قادرة على حمايتهم بشكل فعال أو أنها تسهل جرائم العنف في كثير من الأحيان.
الأهداف السياسية الخفية: هناك مخاوف من أن الاحتلال الإسرائيلي يمكن أن يستفيد من تصاعد جرائم القتل لتشتيت انتباه الفلسطينيين عن القضايا الوطنية الكبرى ولتقويض الوحدة الوطنية، وبشكل عام، تعد هذه القضية تحدياً معقدًا يتطلب تعاونًا شاملاً بين السلطات الفلسطينية والمجتمع المحلي لمكافحة الجريمة وتحقيق الأمن والاستقرار.