الوقت_ كثيراً ما يتم الحديث هذه الأيام عن كذب وخداع السلطة الفلسطينيّة في رام الله على الشعب الفلسطينيّ، لكنّ ما يجري على الساحة الفلسطينيّة والتسريبات والوضع الأمني الراهن وضع محمود عباس بموقفٍ مُحرج للغاية وخاصة فيما يتعلق بالملف الأمنيّ الخطير مع سلطات الاحتلال، حيث إنّه على الرغم من كل الإجراءات العدائيّة الاحتلاليّة لحكومة العدو المُتطرفة برئاسة بنيامين نتنياهو، ما زالت حكومة رام الله تفتح كل أبواب التعاون مع تل أبيب وتستخدم جميع الأساليب الإجراميّة ضد شعبها، مستجدية العدو الباغي لأنّها تعتبر مقاومته "أمراً خاطئاً"، في وقت تمتلك الكثير من الأوراق السياسية والأمنية للتعامل مع التصعيد الإسرائيلي الذي لم يترك أخضر ولا يابس، وزادت حدته بشكل كبير خلال الفترة الماضية، إلا أنّنا لم نشهد أيّ رد من السلطة التي يتم التعامل معها من قبل الإسرائيليين بإذلال واستعباد بل العكس، ومع ذلك كله تؤكد حركة "فتح" على استمرار التنسيق الأمنيّ مع العدو وملاحقة المقاومين في الضفة، وتعلن دوماً سيرها في طريق الخنوع الذي لم يجلب لها سوى الخيبة والهزيمة والاستحقار أمام الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء.
تسريباتٌ خطيرة
تدل تصرفات السلطة الفلسطينيّة الطائشة على محاولاتها المُستميتة للتغطية على ملف التنسيق الأمني مع "إسرائيل"، ومحاولاتها الفاشلة فرض “تعتيم” إعلامي كامل عليه، وتجاهل الحديث حوله من خلال وسائل الإعلام وتصريحات المسؤولين التابعين للسلطة، لكنّها قد باءت بالفشل ولم تصمد طويلاً، وقد أثقبت رام الله مسامع العالم بالعبارات التي تتحدث أنّها ستوقف التنسيق الأمني بكل أشكاله، وتُعلق الاتفاقيات السابقة مع تل أبيب وتسحب الاعتراف، مقابل الرد المثير للسخرية مقابل الجرائم التي يرتكبها العدو، لكن وفي كل مرة تساهم السلطة بشكل أكبر في تطبيق مشاريع الكيان الغاصب التي تهدف إلى تصفيّة القضيّة الفلسطينيّة من خلال التعاون اللامحدود مع الإسرائيليين، في وقت سقطت فيه سقوطاً مدويّاً من قلوب الفلسطينيين وباتت أداة رخيصة تستعمل ضد إرادة الشعب وتطلعاته، في برهان جديد على أنّ السلطة الفلسطينيّة لن تكون في يوم من الأيام ممثلاً شرعيّاً لمطالب الفلسطينيين الذين يعيشون الويلات بسببها على أراضيهم المسلوبة.
ورغم التشكيك المريع من قبل الفلسطينيين برواية العدو الغاصب، حول وهم القرار الرسميّ الحازم بوقف كل اشكال التنسيق الأمنيّ مع الصهاينة ردّاً على جرائم الاحتلال المتصاعدة بحق أبناء الشعب الفلسطينيّ والتي لم ترحم بشرًا ولا شجرًا ولا حجرًا وفقاً للوقائع، وزادت وتيرتها في الفترة الفائتة وخاصة في المسجد الأقصى المبارك وفي هذا الشهر الفضيل، وما شهده العالم من قتل بدم بارد واعتداءات وضرب وطرد للمعتكفين والمصلين لكل من يعترض طريق قوات الاحتلال في الشارع، جاءت تسريبات جديدة لتكشف حجم خداع السلطة التي لم تحصل أيّ فائدة من العلاقات مع الكيان واستمرارها بالتنسيق الأمنيّ معه، مقابل وقوفها في وجه توحيد الصف الفلسطينيّ لمنع تحدي الاحتلال الغاصب وعرقلة مقاومة التطبيع والتهويد والضم والاستيطان المتصاعد، لكنّها على العكس انخراطت في المعركة ضد الفلسطينيين، وهو ما يشجع كيان الاحتلال والمستوطنين على العربدة والتغول في أراضي الفلسطينيين من خلال القتل الميداني ومخطّطات العدو الاستيطانيّة الرامية لإنهاء الوجود الفلسطينيّ السياسيّ والسكانيّ في الضفة الغربيّة ومدينة القدس.
وكشفت وثائق أمنيّة تابعة للولايات المتحدة الأمريكيّة سُرّبت عبر مواقع التواصل مؤخراً، أنّ وزارتي الدفاع (البنتاغون) والعدل الأميركيتين فتحتا تحقيقاً داخليّاً كشف أنّ سلطة رام الله حافظت على التنسيق الأمنيّ مع سلطات الاحتلال خلال الفترة التي أعلنت فيها وقفه، لتتأكد حقيقة أنّ المتحكم الوحيد بالسلطة هو العدو القاتل والسلطة الفلسطينيّة ليس أكثر من "حجر شطرنج" على طاولة السياسية الإسرائيليّة الخبيثة، فالضفة الغربيّة لو لم تكن مرهونة بقرارات السلطة المتعاونة مع العدو العنصريّ، لما وصل الإجرام والاستخفاف الصهيونيّ بأرواح الفلسطينيين لهذا الحد، وإنّ حركة "فتح" ترتكب وفقاً لغالبية الفلسطينيين "خطيئة تاريخيّة" لا تغتفر من خلال اعتقادها بأنّ وجود علاقة مع الكيان الإرهابيّ ربما تصب في مصلحتهم، في الوقت الذي يثبت فيه التاريخ والواقع أنّ الصهاينة يتمادون أكثر فأكثر في عدوانهم الذي لا يمكن أن يوقفه إلا القوة والوحدة والمقاومة.
وتضمنت التسريبات التي انتشرت على منصة “ديسكورد” ومن ثم تمّ حذفها، إحدى الوثائق الأميركيّة التي تشير إلى قراءة أمنية للوضع في الضفة الغربية بعد قمة العقبة، والتي رافقتها عملية استشهادية في منطقة حوّارة، ثم هجمة ليليّة للمستوطنين بالأسلحة النارية والعصي والعبوات الحارقة، وتنصّ الوثيقة المسربة بشكل واضح على أن العمليات الإسرائيلية والتابعة للسلطة الفلسطينيّة لتحديد مكان المسلّحين الفلسطينيين لا تزال مستمرّة، على عكس ما ظلّ يؤكده مسؤولون في رام الله منذ ذلك الحين، وكان ذلك الموضوع محل جدل بين من ينفيه ويؤكّده بالاستناد إلى تصريح من مسؤول كبير في حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، تحدث في وقت سابق أنّ الخطوة الإستراتيجية في قطع العلاقات مع العدو الغاصب يمكن تنفيذها إذا ما تغيرت قواعد العلاقة بين السلطة والكيان، وقد يؤدي إلى اشتباك مسلح بين جنود الاحتلال الذي يداهمون المناطق الفلسطينيّة المحتلة كل ليلة وعناصر الشرطة الفلسطينية، وسيفضي تزعزع استقرار وانهيار حكومة رام الله التي تدير مناطق الضفة الغربية، رغم أنّه وقبل شهر من ذلك التاريخ، كانت رام الله قد أعلنت وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، عقب المجزرة التي اقترفها سلطات العدو في 26 يناير/كانون الثاني في جنين وأسفرت عن استشهاد 10 فلسطينيين؛ ولم تعلن أبداً بشكل رسميّ عن عودة الاتصالات بينهما.
تنسيقٌ أمنيّ متواصل
نعلم جميعاً من خلال المعلومات التي تنشرها وسائل الإعلام العبريّة أنّ حكومة العدو قامت بفرض مزيد من القيود على الفلسطينيين، وسنّ تشريعات من شأنها ضمّ أراض جديدة في الضفة الغربية وتشريع بؤر استيطانية والتضييق على الأسرى، وإعلانها تبنّي عقوبات ضد الفلسطينيين على إثر تحرّكهم لمواجهتها في مؤسسات الأمم المتحدة، وإقرارها إجراءات ضد السلطة الفلسطينية؛ بسبب توجهها إلى محكمة العدل الدولية، واتخاذها تحويل 139 مليون شيكل (39 مليون دولار) من أموال السلطة إلى عائلات قتلى صهاينة قتلوا في عمليات فلسطينية، وخصم دفعات السلطة الفلسطينية إلى الأسرى وعائلات الشهداء في العام 2022، وتجميد بناء الفلسطينيين في المناطق "ج"، وسحب “منافع لشخصيات فلسطينية" تقود الصراع القضائي السياسي ضد تل أبيب، لكنّنا نرى أنّ عباس مازال متمسكاً بالحبل الذي يشده إلى "الجحيم"، حيث تحولت العلاقات بين السلطة الفلسطينيّة والعدو الصهيونيّ المُستبد، إلى معضلة في في وجه حالة الإجماع الوطنيّ الرافضة للتسوية والمفاوضات مع عصابات الاحتلال، وخاصة أن تل أبيب تسعى بكل ما أوتيت من قوّة خلق أمر واقع على الأرض لإقامة الدولة العنصريّة المزعومة على أراضي الفلسطينيين.
وفي الفترة الماضية، أوضح تقرير نشرته صحيفة “هآرتس” أن التنسيق الأمني بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية وسلطات الاحتلال ما زال متواصلًا، مؤكّدة أنّ رئيس السلطة اتخذ قراره في ذلك لأنه لم يبق أمامه خيار آخر سوى خطوته الاعتيادية بالإعلان عن وقف التنسيق الأمنيّ، في إهانة كبيرة لعباس، كما بيّن المحلل العسكري في الصحيفة عاموس هرئيل أنّ وقف النسيق بمثابة "خطوة تكتيكية" وأنّ العلاقات الأمنية مستمرة وراء الكواليس، حيث غضّت رام الله الطرف عن اعترافها بالعدو الصهيونيّ القاتل، والتنسيق الأمنيّ معه، والذي يشكل ضربة لأيّ شراكة عمل وطنيّ في عمقه ويناقض التفاهمات الداخليّة، انطلاقاً من أنّ الأمة تُسلب إرادتها وتنهب ثرواتها ليصبح الكيان الصهيونيّ سيداً في المنطقة، والدليل أنّ تل أبيب مستمرة في غيها وتغول كيانها من خلال منهجها العدوانيّ في أكثر من ملف.
خلاصة القول، إنّ محاولة "ضرب المقاومة" واقتلاع جذورها هو هدف استراتيجيّ كبير لسلطات العدو ومن يأتمر بأمرها، ومن منا لا يعلم أنّ الاحتلال الغاصب يحاول بكل ما أوتي من قوة عبر التعاون والتنسيق مع السلطة الفلسطينية القضاء على المقاومة الفلسطينيّة في الضفة الغربية المحتلة، وخاصة في الوقت الذي نشهد فيه تصاعدًا للمقاومة المسلحة وعلى وجه التحديد في الضفة، كما أنّ رهان السلطة على استمرار التنسيق الأمنيّ وضعها في عزلة فلسطينيّة ضد حالة الإجماع على المقاومة ورد الصاع صاعين للمحتلين، ما يضع السلطة في موقف حرج وخطير فرصيدها الشعبيّ بات في حدوده الدنيا حتى قبل انتشار هذه التسريبات، وعلى الأرجح أنّ خوفها العام من ردود الأفعال الشعبيّة هو السبب الأوحد من كذبها في هذا الملف المهم والحساس.