الوقت - لقد خلفت حروب التاريخ الكبرى العديد من التغييرات في المجالين السياسي والاقتصادي للعالم، وهذه المرة، نظرًا لأبعادها الشاسعة، تسببت الحرب في أوكرانيا في العديد من التغييرات في النظام الجيوسياسي للعالم، ومن خلال كتابة فصل آخر من التاريخ، سيدخل العالم حقبةً جديدةً.
إضافة إلى الاصطفاف العسكري والسياسي الذي تم تشكيله بعد الحرب في أوكرانيا، كان لهذه الحرب أيضًا تأثير في المجال الاقتصادي والمالي، ويتم الآن تشكيل ترتيبات جديدة في هذا المجال.
وفي هذا الصدد، يدرس الاتحاد الاقتصادي لدول جنوب شرق آسيا المعروف باسم "آسيان"، إزالة الدولار واليورو والين والجنيه الإسترليني من المعاملات التجارية بين دوله الأعضاء واستخدام العملات الوطنية.
بدأ الاجتماع الرسمي يوم الأربعاء الماضي بحضور وزراء الاقتصاد والمالية ومحافظي البنوك المركزية في الدول الأعضاء في آسيان، بهدف تطوير التعاون الأمني والاقتصادي في أندونيسيا.
دول بروناي وكمبوديا وإندونيسيا ولاوس وماليزيا وميانمار والفلبين وسنغافورة وتايلاند وفيتنام أعضاء في هذا الاتحاد الاقتصادي، وتحاول تقليل الاعتماد على عملات مثل الدولار.
منذ زمن بعيد، أثيرت قضية تطوير استخدام العملات الوطنية في المبادلات التجارية بين الدول الأعضاء في مجموعة آسيان، وتم وضع المفاوضات الحالية على جدول الأعمال كاستمرار لهذه الخطة.
تسعى آسيان إلى تطوير نظام دفع رقمي عبر الحدود بين الدول الأعضاء فيها، لاستخدام العملات الوطنية في المعاملات التجارية. في نوفمبر 2022، تم توقيع اتفاقيات للتعاون في هذا المجال بين إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة والفلبين، إلى جانب تايلاند. وفي هذا الصدد، قال الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو، "التخلي عن أنظمة الدفع الغربية ضروري لحماية التفاعلات التجارية من التوترات الجيوسياسية."
أعضاء آسيان هم من القوى الاقتصادية العظمى في آسيا، والتي يمكن أن يكون لسياساتها النقدية تأثير كبير على التبادلات العالمية، وهو أمر لا يصب في مصلحة الدول الغربية. ويأتي قرار آسيان بإزالة الدولار واليورو من التبادلات داخل المجموعة، بينما تسعى الصين وروسيا وحلفاؤهما بجدية إلى هذا المشروع خلال العام الماضي.
قبل يومين، وقعت كل من الصين والبرازيل اتفاقيةً للتجارة الثنائية باليوان. تعدّ البرازيل إحدى القوى الاقتصادية العظمى في العالم وأحد أكبر شركاء الصين، والتخلي عن الدولار من التبادلات الثنائية واستخدام اليوان يمكن أن يقلب الثقل الاقتصادي العالمي لصالح الصين.
كما اتفقت الصين مؤخرًا مع السعودية على تقليل المعاملات بالدولار. تتداول الصين والسعودية 100 مليار دولار سنوياً، وإزالة الدولار ستؤدي إلى انخفاض التعاملات الدولارية في العالم.
وفي وقت سابق، أجرت بنغلاديش وكازاخستان ولاوس أيضًا محادثات مع الصين لتعزيز استخدام اليوان. كما أعلنت الهند عن تدويل الروبية، وأطلقت آلية دفع ثنائية مع السعودية بعملتها المحلية.
من ناحية أخرى، تسعى روسيا، التي قطعت علاقاتها الاقتصادية مع أمريكا وأوروبا بعد حرب أوكرانيا، إلى سحب الدولار من تبادلاتها مع الدول الأخرى. وقد بدأت خطوتها الأولى في المبادلات التجارية مع إيران، وتم إبرام اتفاقيات مع الصين في هذا الصدد، وفي حال تنفيذها ستتوسع العملات الوطنية الأخرى أيضًا مقابل الدولار.
إنهاء هيمنة الدولار
إضافة إلى تعزيز قيمة العملات الوطنية في العالم، فإن إزالة الدولار من التبادلات الأجنبية بين الدول ستنهي أيضًا هيمنة الولايات المتحدة على العالم التي استمرت 80 عامًا.
تعود هيمنة الدولار الأمريكي إلى مؤتمر "بريتون وودز" الذي عقد في عام 1944، عندما وافقت 44 دولة في جبهة الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية على إنشاء نظام نقدي دولي جديد، والتزمت مجموعة من الدول هناك بتحديد قيمة عملاتها على أساس الدولار الأمريكي، ومنذ ذلك الحين طغت السياسات النقدية الأمريكية على الاقتصاد العالمي.
إن استخدام الدولار كعملة مشتركة في العالم قد أعطى أمريكا مكانةً خاصةً في الاقتصاد العالمي، وفي العقود الثمانية الماضية استخدمت هذه الدولة الدولار كسلاح سياسي لمعاقبة الدول المعادية من أجل مواءمتها مع سياساتها العالمية.
لقد تسببت العقوبات الأمريكية القاسية في إلحاق أضرار جسيمة باقتصاد الدول النامية، وإذا تمت إزالة الدولار من التعاملات العالمية، فستختفي هذه الهيمنة تلقائيًا ولن تكون واشنطن قادرةً بعد الآن على معاقبة الدول الأخرى بضغط العقوبات.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة هي أكبر مدين في العالم، إلا أنها تستطيع الوفاء بالتزاماتها العالمية بطباعة الدولار، دون أن يتضرر اقتصادها، لكن الآخرين محرومون من هذا الامتياز ويتعين عليهم التكيف مع سياسات الدولار المصممة في البيت الأبيض.
العديد من الدول تضررت من هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي، وتحاول التخلص من هذا الوضع إلى الأبد بمبادرات مالية جديدة، والحفاظ على قيمة عملاتها الوطنية مقابل العملات الأخرى.
في العام الماضي حدثت العديد من التغيرات والتحولات في الاقتصاد العالمي، والتي أدت إلى انخفاض سعر صرف الدولار، والولايات المتحدة قلقة للغاية بشأن هذه القضية.
وفقًا للإحصاءات، في فبراير 2013، انخفض استخدام الدولار الأمريكي في المعاملات العالمية بنسبة 1.07٪، ووصل إلى 38.85٪ من إجمالي المعاملات العالمية التي تمت عبر شبكة سويفت، ما يظهر أن تراجع الدولار يتم بشکل طفيف، وبالنظر إلی القرارات الجديدة لرابطة دول جنوب شرق آسيا واتفاقيات الصين وروسيا مع حلفائهما، في الأشهر المقبلة سيكون منحدر انخفاض قيمة الدولار أسرع، وقد بدأت هياكل بريتون وودز تهتزّ من الآن.
تظهر الأدلة أن التحويلات المالية بعملات عالمية أخرى آخذة في الازدياد، وهکذا فإن قدرة أمريكا على استخدام عملتها في الحروب الجيوسياسية كما فعلت في أوكرانيا تتقلص، والآن أدرك العديد من البلدان حقيقة أنه يمكنهم استخدام عملاتهم المحلية بشكل مباشر، وسيؤدي ذلك إلى أنظمة دفع أكثر توازناً في العالم، وقد أثارت هذه القضية قلق قادة البيت الأبيض.
إذا تساوت قيمة جميع العملات الوطنية، في هذه الحالة لا يمكن لأي دولة استخدام العقوبات لمعاقبة الآخرين، لأنه لا توجد عملة متفوقة.
تعزيز موقع الصين
کلما تراجعت هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي، يعدّ ذلك فرصةً جيدةً للمنافسين الآخرين لتعزيز موقعهم مقابل الولايات المتحدة.
تعد الصين الآن أكبر مصدر وثاني قطب اقتصادي في العالم، والتي وفقًا للإحصاءات ستستعيد المركز الأول من الولايات المتحدة بحلول عام 2030. لذلك، فإن تبادلات بعض الدول المؤثرة مثل البرازيل والسعودية بالعملة الوطنية للصين، ستحسن مكانة هذه القوة الناشئة في الساحة العالمية.
في استراتيجيتها للأمن القومي، حددت الولايات المتحدة الصين باعتبارها التهديد الرئيسي لهيمنتها العالمية، وإذا زاد موقع اليوان مقابل الدولار، فستتفوق الصين على الولايات المتحدة وتنهي هيمنة واشنطن المستمرة منذ ثمانية عقود في العالم.
على عكس أمريكا التي تستخدم الضغط السياسي والاقتصادي ضد الدول لدفع سياساتها، لم تسع الصين أبدًا للتدخل في الشؤون الداخلية في تفاعلها مع الدول وحاولت التعامل معها باحترام متبادل، ولهذا السبب رحّب الآخرون بالصينيين بأذرع مفتوحة، وهذا النوع من النهج يفتح الطريق أمام استخدام اليوان في التفاعلات الثنائية، وبالتالي ستنخفض قوة الدولار.
تصمم الصين وروسيا الآن نظامًا عالميًا جديدًا لن يكون للغرب الكلمة الأولى والأخيرة فيه، وعالمًا بهيكل متعدد الأقطاب تكون فيه القوى الشرقية في المركز. كما قال الرئيس الصيني شي جين بينغ في اجتماعه الأخير مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: "يحدث تحول لم يقع في المئة عام الماضية، وسنشكله معًا".
بشكل عام، يمكن القول إن التمرد العالمي ضد الدولار قد بدأ في العالم، وجميع الفاعلين يتطلعون إلى استخدام عملات أخرى وتعزيز عملتهم الوطنية مقابل الدولار، وبالتالي في النظام الجديد الذي يتم تشكيله، لن يكون هناك شيء عن سيادة أمريكا والدولار، وستقوم القوى الناشئة مثل الصين بتصميم النظام المالي العالمي بمساعدة شركائها وفي شكل تحالف متماسك.