الوقت - حكمت الإمبراطورية العثمانية ولعدة قرون مناطق شاسعة من الشرق الأوسط وأوروبا والبلقان، وكانت تضم أقواماً وأعراقاً ولغات وثقافات مختلفة يحكمها خليفة عثماني في إطار الإسلام.
ورغم هذا التنوع العرقي والقومي والثقافي كانت الدولة العثمانية تتمتع بالثبات والاستقرار في مختلف أرجائها المترامية الأطراف حتى وقت إنهيارها بعد الحرب العالمية الأولى. وتسبب هذا الإنهيار بتقسيم البلدان الاسلامية التي كانت تعيش ضمن حدود الدولة العثمانية. وتم التقسيم على أساس الهوية القومية والاختلافات العرقية ومصالح الدول الغربية التي إنتصرت في الحرب العالمية الأولى وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا، وليس على أساس التوافق بين هذه الدول والبلدان التي شكّلت الخريطة الجديدة للشرق الأوسط؛ بل على العكس من ذلك تم قمع كل من عارض هذا المشروع الاستعماري.
وأوجد هذا التقسيم سلسلة من النزاعات الحدودية بين دول المنطقة تجلت بوضوح في السنوات الأخيرة من القرن العشرين أثناء غزو نظام صدام للكويت عام 1990، وخلق حالة غير مسبوقة من الفوضى والصراعات الداخلية في العديد من هذه الدول خصوصاً في العقد الثاني من القرن الحالي وتحديداً بعد عام 2010.
ومن الإفرازات المهمة الأخرى التي تمخض عنها تقسيم المنطقة بين الدول الغربية ظهور دولتين كبيرتين هما العراق الذي وقع تحت الإنتداب البريطاني عام 1918 وسوريا التي وقعت تحت الإنتداب الفرنسي عام 1920، فيما أعلن الأتراك عن تأسيس دولتهم الجديدة عام 1922، ودعا بعضهم في الوقت ذاته إلى التمسك بالإرث التاريخي للدولة العثمانية.
وفي عام 1917 وعدت بريطانيا بإنشاء كيان لليهود على أرض فلسطين أطلق عليه فيما بعد إسم "الكيان الإسرائيلي" وتحقق هذا الوعد المعروف بـ "وعد بلفور" عام 1948 وتسبب بخلق أزمات لاتعد ولاتحصى في الشرق الأوسط منذ ذلك الحين وحتى الآن.
ومن القضايا المهمة الأخرى التي برزت بسبب التقسيم الآنف الذكر ما يرتبط بتحديد مصير ولاية الموصل التي تضم محافظات الموصل وكركوك واربيل والسليمانية ضمن التقسيم الاداري الحالي للعراق والتي تختزن الكثير من مناطقها كميات هائلة من الاحتياطي النفطي الذي يحظى باهتمام العديد من الدول الغربية لاسيّما بريطانيا بالإضافة إلى تركيا في الوقت الحاضر.
وبعد سلسلة من المباحثات والمساعي غير المثمرة التي بذلتها أنقرة وُضعت ولاية الموصل تحت تصرف الأمم المتحدة لفترة من الزمن قبل أن تصبح جزءاً من العراق الذي كان في ذلك الوقت تحت الوصاية البريطانية.
ورغم الأحداث الكبيرة التي شهدتها المنطقة طيلة العقود التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، لم تعد الحدود بين دولها إلى ما كانت عليه في زمن الإمبراطورية العثمانية. وبقيت الحدود المصطنعة على حالها ولم تفلح أي محاولة لتغييرها إلاّ في حالات معدودة أستخدم فيها السلاح وأريقت خلالها الكثير من الدماء. وتماشياً مع هذه الحقيقة يمكن إدراك الواقع السياسي الحالي والقادم لدول هذه المنطقة.
وواجهت الجرائم الشنيعة التي إرتكبتها العصابات الارهابية لاسيّما تنظيم "داعش" خلال السنوات الأخيرة والتي تهدف إلى تفكيك الشرق الأوسط وتغيير خريطته السياسية؛ واجهت معارضة واسعة من قبل القوى الوطنية في دول المنطقة والكثير من الأطراف الاقليمية والدولية. ويمكن الجزم بأن التضحيات الجسام التي قدمها ويقدمها الشعبان العراقي والسوري في الوقت الراهن لعبت وتلعب دوراً كبيراً في منع هذه الجماعات والدول الداعمة لها من تحقيق أهدافها الرامية إلى تمزيق المنطقة والعبث بمصيرها ومقدراتها خدمة للمشروع الصهيوأمريكي المسمى "الشرق الأوسط الكبير أو الجديد". وفي حال تعرض العراق أو سوريا أو أي بلد آخر في المنطقة إلى التقسيم على أساس طائفي أو قومي، فمن المؤكد إن ذلك سيتسبب بوقوع نزاعات دموية لايمكن التكهن بنتائجها بين المكونات السكّانية الرئيسية في هذه البلدان.
ومن خلال قراءة هذه المعطيات وتداعياتها المتوقعة يبدو أن الحفاظ على هيكلية الشرق الأوسط التي تشكلت بعد إنهيار الدولة العثمانية كما ذكرنا وتحولت إلى واقع إقليمي ودولي لا يمكن أن تتغير دون وقوع صراعات هائلة، لكن هذا لايعني إن الحفاظ على هذه الهيكلية أمر يسير ومتاح إلى ما لا نهاية، خصوصاً إذا ما عرفنا إن "سايكس – بيكو" جديد في طريقه إلى التنفيذ على الرغم من صعوبة تحقيقه دون تصاعد وتيرة الحروب وسفك المزيد من الدماء في هذه المنطقة الحسّاسة والمهمة من العالم.