الوقت - في الوقت الذي تشهد فيه الأجواء السياسية في لبنان حالة من الفوضى والارتباك في الأسابيع الأخيرة بسبب الجمود في انتخاب رئيس وتشكيل الحكومة الجديدة، والذي بدوره تسبب في تدخل جهات أجنبية للتأثير على مجريات الأحداث، أصبح مقتل جندي تابع للأمم المتحدة في هذا البلد في الأيام الماضية ذريعة للحكومات الأجنبية لجعل تدخلاتها أكثر وضوحا.
في أواخر الأسبوع الماضي، قُتل أحد جنود قوات حفظ السلام التابعين للأمم المتحدة والمعروف باسم اليونيفيل في جنوب لبنان ، ولا يزال السبب الدقيق لهذا الحادث غير واضح. أفادت الأنباء، بأن مركبتين تابعتين لقوات اليونيفيل كانتا تخططان للتوجه إلى بيروت لاستبدال القوات القديمة بالقوات الجديدة، خرجت إحدى هاتين المركبتين من الطريق السريع الرئيسي لسبب غير معروف وتوجهت إلى - بلدة العقيبية خارج منطقة عمليات هذه القوات؛ وبما أن أهالي هذه البلدة كانوا في الشوارع يشاهدون مباريات كأس العالم لكرة القدم، فوجئوا برؤية دورية لليونيفيل وطالبوا بخروجها من البلدة، وسرعان ما توتر الوضع في البلدة.
كانت هذه السيارة في طريقها للعودة خوفا من اللبنانيين، لكنها دهست دون قصد مواطنا لبنانيا، وأطلق مسلحون كانوا في الحشد النار على سيارة اليونيفيل، كما اصطدمت السيارة بأحد المباني أثناء فرارها وانقلابها، وقتل جندي أيرلندي. ولم يتم الإعلان بعد عن التفاصيل الدقيقة لكيفية مقتله، والتحقيق جار بين الأمم المتحدة واللبنانيين.
على الرغم من أن حزب الله والجيش اللبناني قالا إن هذا الحادث كان عرضيًا وليس مخططًا مسبقًا، إلا أن معارضي حزب الله، في الداخل وفي المنطقة، حاولوا التصيد في المياه العكرة وتضخيم هذه الحادثة ووجهوا أصابع اللوم إلى المقاومة. وزعمت وسائل إعلام المعارضة وبعض مستخدمي الشبكات الافتراضية أن حزب الله وراء الحادث وحاولوا ربطه بعملية انتخاب رئيس جديد.
منذ وجود قوات اليونيفيل في لبنان عام 1978، حدثت مثل هذه الحوادث عدة مرات، ولكن في الوضع الحالي، فإن اتهام حزب الله كان عن قصد لإثارة الجدل.
الرياض وباريس تبدأَان العمل
بعد فراغ السلطة في لبنان الناجم عن غياب رئيس الوزراء والرئيس، بدأت المملكة العربية السعودية وفرنسا مرة أخرى نشاطهما الدبلوماسي، وذلك في لقاء أخير بين مسؤولين سعوديين وفرنسيين في باريس؛ وناقش الطرفان انتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية ومقتل جندي من اليونيفيل.
وحسب مصادر مطلعة، لم يتم التوصل إلى اتفاق بين المسؤولين السعوديين والفرنسيين في هذا الاجتماع، لأن مواقف السعوديين غامضة وغير واضحة. يقال إن هناك اختلافا في الرأي بين السعودية وفرنسا حول كيفية اختيار الرئيس، لأن باريس تصر على أن الرئيس يجب أن يوافق عليه البرلمان وجميع التيارات السياسية، لكن السعوديين يصرون على شخصية الأشخاص الذين هم على مقربة منهم.
ترافقت العلاقات بين السعودية ولبنان، في السنوات الأخيرة، مع العديد من التحديات، وحاول السعوديون، الذين لم يتمكنوا من الوصول إلى البرلمان عبر القنوات الدبلوماسية، إجبار حزب الله على التراجع عن طريق فرض عقوبات واسعة وبتواطؤ الولايات المتحدة. لذلك، هذه المرة أيضًا، يبدو أن موت جندي اليونيفيل قد أتاح لهم فرصة جيدة لتنفيذ خططهم الفاشلة.
بينما يصر السعوديون على حصصهم في رئاسة لبنان ورئاسة الوزراء، فإن الحركات الموالية للسعودية، بما في ذلك سعد الحريري، مرت في السنوات الماضية بعملية تراجع في الانتخابات النيابية بسبب أدائها الضعيف وغير المستقل. وبالتالي فإن الرياض بإسقاط وتجاهل الإرادة العامة للبنانيين تريد ظهور شخصيات كفوءة ومستقلة.
وهذه المطالب التي تبلورت في مواقف المقاومة وبعض الحركات السياسية الأخرى فُسرت على أنها انتهاك لاتفاق الطائف.
حدد اتفاق الطائف، الذي تم توقيعه عام 1989 لإنهاء الحرب الأهلية التي دامت 15 عامًا في لبنان بين جميع الجماعات السياسية اللبنانية في المملكة العربية السعودية، تقاسم السلطة بين المسيحيين الموارنة والمسلمين (الشيعة والسنة)، والذي بموجبه يكون منصب رئيس الجمهورية للمسيحيين الموارنة، ورئيس مجلس النواب للشيعة، ومنصب رئيس الوزراء للسنة. يتنافس على الرئاسة حاليًا تياران رئيسيان بين المسيحيين، أحدهما قريب من المقاومة (التيار الوطني الحر بقيادة جبران باسيل) والآخر قريب من السعودية (حزب القوات بقيادة سمير جعجع).
العقوبات الأمريكية.. نار تدعم خطة السعودية وفرنسا
إلى جانب السعوديين، زادت الولايات المتحدة أيضًا من جهودها للتأثير على التطورات في لبنان. وفي هذا الصدد، دعت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي، في رسالة وجهتها إلى وزيري الخارجية والخزانة في هذا البلد، إلى فرض عقوبات على من يعرقلون عملية انتخاب رئيس جديد للبنان، وتدعي الرسالة أن حزب الله وحلفاءه فشلوا في إعطاء الأولوية لاحتياجات الأمة على مصالحهم الخاصة.
لبنان بحاجة إلى حكومة منتخبة وقوية لا تتأثر بالأجانب وتعطي الأولوية لحاجات أمته، وحزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر يعرقلون انتخاب رئيس جديد.
تأتي مزاعم الأمريكيين بينما يبذل حزب الله والتيار الوطني الحر المسيحي قصارى جهدهم لإنهاء الأزمة السياسية في لبنان بأسرع ما يمكن، ويواجهون الضغوط الخارجية المخربة. في حين أن الأمريكيين يخلقون أزمة اقتصادية غير مسبوقة للبنان مع عقوبات واسعة النطاق وقطع المساعدات المالية.
وحسب الرياض وواشنطن، فإن نجاح حزب الله في تعيين شخص مستقل للانتخابات الرئاسية سيعزز دور هذا التيار في التطورات في لبنان، وسيزيد من قوة محور المقاومة في هزيمة خططهم التدخلية في لبنان. وبما أن التيارات السياسية اللبنانية تعقد حالياً اجتماعات برلمانية لانتخاب رئيس جديد، فإن مقتل جندي من اليونيفيل يمكن أن يكون ذريعة لواشنطن والرياض لتسجيل نقطة على حزب الله في هذا الصدد وتقديم خيارهما المنشود للبنانيين، حيث أعلنت بعض المصادر في الآونة الأخيرة أن السعودية وقطر اتفقتا على جوزيف عون، قائد الجيش اللبناني، كرئيس.
تحاول الجبهة العربية الغربية فرض رأيها على رئاسة لبنان، فيما يعارض حزب الله وحلفاؤه هذه الخيارات ويقولون إن عليهم اختيار رئيس يصمد في وجه التجاوزات الأمريكية ويرعى المصالح الوطنية للبنان. حزب الله وحلفاؤه يملكون غالبية المقاعد في البرلمان وأي سيناريو سيفشل حتى يوافق ممثلو المقاومة على خيار الرئيس.
من ناحية أخرى، فإن تصفح هذه القضية في وقت يشهد توترًا بين حزب الله والنظام الصهيوني حول موضوع ترسيم الحدود البحرية في الأشهر الأخيرة، يمكن أن يكون مفيدًا للصهاينة لصرف انتباه المقاومة عنهم.
زيادة التحركات العربية الغربية بعد مقتل جندي اليونيفيل تعزز الفرضية القائلة أن هذه الحادثة ربما كانت خطة مع سبق الإصرار من قبل جهات أجنبية لتكوين جبل من الرفض والضغط على حزب الله. حيث إن كل السيناريوهات الدبلوماسية السابقة قد فشلت لذا اختاروا هذا الطريق. بمعنى آخر، انتهى هذا الحادث لمصلحة الرياض وواشنطن، ليتمكنا من تنفيذ خططهما من خلال خلق أزمة ضد حزب الله.