الوقت- مع قدوم حكومة "بايدن" إلى البيت الأبيض، وازدياد المشاكل الاقتصادية لتركيا، وتغير استراتيجية السلطات التركية في منطقة غرب آسيا، تحركت السياسة الخارجية للبلاد نحو "تجميد التوترات" وتحسين العلاقات مع منافسيها و "أعداء الأمس". ومن الأمثلة على هذا التغيير في الاستراتيجية لأنقرة تحسين العلاقات بين هذا البلد والنظام الصهيوني. ومنذ تأسيس حزب العدالة والتنمية في تركيا، أظهر رجب طيب أردوغان نفسه سياسيًا مناهضًا للصهيونية وداعمًا للشعب الفلسطيني.
وربما كانت إحدى الصور الدائمة في إدانة الكيان الصهيوني هجوم أردوغان اللفظي على رئيس إسرائيل آنذاك في قمة دافوس. الآن، أدت احتياجات تركيا الجيوسياسية والاقتصادية إلى تل أبيب، ولا سيما في مسألة حقول الغاز بشرق البحر المتوسط، إلى تعديل سياسات أنقرة واستئناف العلاقات بين البلدين. وفي استمرار لهذه الملاحظة، سنحاول التحقيق في نوع السياسة التركية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وتقلبات علاقات هذا البلد مع النظام الصهيوني.
تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني
أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد، الأربعاء 17 أغسطس 2022، التطبيع الكامل للعلاقات مع تركيا والارتقاء بالعلاقات الدبلوماسية إلى مستوى السفراء. وقال مسؤول صهيوني رفيع في مقابلة مع صحيفة "يديعوت أحرونوت" الثلاثاء الماضي، إن تل أبيب وتركيا تقتربان من اتفاق يسمح للطائرات الإسرائيلية بالعودة إلى المطارات التركية بعد سنوات من الحظر. وفي استمرار لهذا الحديث، توقع أن يُسمح لشركات الطيران التجارية التابعة للنظام الصهيوني بالهبوط في المطارات التركية خلال الأسابيع القليلة المقبلة. ونشر هذا الخبر بعد لقاء رئيس النظام الصهيوني مع أردوغان في تركيا لا يبدو وكأنه تطور غريب وغير متوقع. وفي عام 2018، بعد مقتل متظاهرين فلسطينيين في قطاع غزة، استدعت أنقرة وتل أبيب سفرائهما ثم وجهتا انتقادات شديدة ضد بعضهما البعض. ولعل عمق العداء بين البلدين يمكن العثور عليه في تصريحات رئيس الموساد السابق. ففي لقاء خاص، قال يوسي كوهين لنظرائه العرب إن الخطر الرئيسي ضد مصالح النظام الصهيوني والدول العربية في المنطقة ليس إيران، بل تركيا!
وخلال العامين الماضيين، أدت تطورات مثل التعاون المشترك في حرب كاراباخ، وسقوط حكومة نتنياهو، والعلاقات الباردة بين واشنطن وأنقرة، إلى تقريب هذين الحليفين القديمين من بعضهما البعض. وبالطبع، في كل السنوات التي لم تكن فيها بين البلدين علاقات سياسية عامة، كان حجم التجارة بين البلدين قرابة 6 مليارات دولار. كذلك، حافظت خدمتا "ماتي" و "الموساد" على تبادل المعلومات بين بعضهما البعض، بل وسعتها ويمكن اعتبار أحدث مثال على التعاون بين هذين الجهازين بمثابة حرب دعائية واتهامات باستهداف الصهاينة في تركيا من قبل عملاء مرتبطين بإيران.
أبو مازن في أنقرة
استضافت أنقرة يوم الأربعاء 24 أغسطس / آب 2022 رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. وفي مؤتمر صحفي مشترك، أدان اردوغان الهجمات الأخيرة للنظام الصهيوني على قطاع غزة، وأيد حل الدولتين وأعلن تطبيع العلاقات بين تركيا والنظام الإسرائيلي لصالح الشعب الفلسطيني. وفي هذا الصدد أعلن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أن قادة فتح وحماس يؤيدون أيضًا تطبيع العلاقات بين أنقرة وتل أبيب! ويبدو أن أردوغان، الذي يدرك حساسيات الأمة الإسلامية فيما يتعلق بالعلاقة مع الصهاينة، يحاول إظهار حكومته على أنها الداعم الرئيسي لفلسطين ورسم صورة إيجابية عن نفسه.
تغيير اتجاه السياسة الخارجية لتركيا
بعد بداية ما سمي الربيع العربي في عام 2011، قررت تركيا وقطر دعم سقوط الحكومات العربية في المنطقة من خلال دعم حركة الإخوان في المنطقة من أجل الحصول على اليد العليا في الشرق الأوسط العربي. ومنذ ذلك الوقت وحتى نهاية عام 2020، واصلت أنقرة سياستها العدوانية بحيث تم إنشاء تحالف غير مكتوب بين الإمارات والسعودية واليونان ومصر والنظام الصهيوني لمواجهة سياسة تركيا العدوانية. ووصل هذا التهديد إلى درجة أن جامعة الدول العربية قررت إنشاء لجنة خاصة للتحقيق في تدخل تركيا في دول عربية مثل العراق ومصر وسوريا. وتسببت زيادة المشاعر المعادية لتركيا في العالم العربي، وخاصة في دول مجلس التعاون الخليجي (باستثناء قطر)، في تغيير كبير، مثل دعمهم لحكومة بشار الأسد الشرعية ضد أنقرة.
حاليا تركيا على وشك إجراء انتخابات وتواجه حكومة أردوغان أدنى مستوى من الدعم الشعبي منذ وصولها إلى السلطة. وبناءً على ذلك، قرر فريق السياسة الخارجية لهذا البلد خفض مستوى التوتر مع دول العالم من أجل جذب رؤوس الأموال الأجنبية. ونقطة الانطلاق لهذه السياسة هي تقليل التوتر مع الجيران. وحسب وكالة أنباء "الأناضول"، شدد أردوغان على حق تركيا في التدخل في مشاكل وأزمات منطقة "غرب آسيا" في حفل تخرج طلاب عسكريين، لكنه أعلن أن الهدف النهائي لأنقرة هو إنشاء "حزام سلام وتعاون في بيئته المحيطة". إن تطبيع علاقات أنقرة مع السعودية والإمارات ومصر والنظام الصهيوني دليل واضح على سياسة "تخفيف التوتر" ومحاولة تحسين الوضع الاقتصادي لتركيا.
القدس.. جوهر إنتاج الشرعية في العالم الإسلامي
في التاريخ الطويل لمنطقة الشرق الأوسط، كانت إحدى طرق كسب الشرعية والشعبية بين الحكومات والدول الإسلامية هي الاهتمام بقبلة المسلمين الأولى، وهي مدينة القدس. وعلى هذا الأساس، أظهر العديد من الحكام المسلمين، وخاصة بعد احتلال الصهاينة لهذه الأرض، دعمهم لقضية القدس وحرية فلسطين.
وبهذه الطريقة، تستخدم بعض الحكومات، ذات الرؤية الأيديولوجية والدينية، قوتها السياسية والاقتصادية والعسكرية بطريقة حقيقية لتحرير القدس، لكن بعض الحكومات الأخرى قد أساءت استخدام هذا النموذج لصالح مجموعتها أو مصالحها الفئوية. واستخدموه للاستغلال السياسي في العالم الاسلامي. بمعنى آخر، في نظر هذه الحكومات، كلما غلبت المصالح الوطنية على المصالح الإسلامية، فإنها تغير موقفها دون أي اعتبار. ومن أجل فهم سياسة تركيا الخارجية تجاه القضية الفلسطينية، فإن الانتباه إلى "العدسة" المذكورة أعلاه يمكن أن يوفر رؤية مناسبة لتقلبات استراتيجية هذا البلد تجاه قضية القدس.
خلاصة الكلام
بصفتها العضو الشرقي في حلف الناتو العسكري ووريث آخر إمبراطورية إسلامية، فإن تركيا مجبرة على قبول دور مزدوج في الشرق الأوسط العربي. وكحلقة وصل بين القارة الأوروبية والعالم الإسلامي، حاولت هذه الدولة دائمًا أن تصبح الذراع التنفيذي لحلف شمال الأطلسي في منطقة أوراسيا مع الحفاظ على علاقاتها العسكرية والأمنية مع أطراف الكتلة الغربية، وخاصة الصهيونية. ومن ناحية أخرى، وبسبب نفوذها التاريخي في منطقة شامات والوعي بالمكانة العالية لمدينة القدس بين المسلمين، فقد حاولت تركيا أن تظهر نفسها كداعم للأمة الفلسطينية من خلال الدعم السياسي والاقتصادي والإعلامي للجماعات الفلسطينية والفلسطينية.
وفي مثل هذا الوضع، تقرر أنقرة زيادة ثقل النظام الصهيوني أو الفلسطينيين في سياستها الخارجية في فترات زمنية مختلفة، مع مراعاة مصالحها القصيرة والمتوسطة المدى، وضمان أقصى قدر من مصالحها الوطنية. وترجمة هذه الاستراتيجية تعني أنه في القضية الفلسطينية، يمكن اعتماد تعاون تكتيكي مع أنقرة للضغط على الصهاينة، لكن تركيا لم تدخل في توتر مع النظام الصهيوني على المستوى الاستراتيجي ولن تهاجم أراضي هذا النظام.