الوقت- قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بزيارة استمرت يومين إلى المملكة العربية السعودية بعد خمس سنوات من وقوع حادثة قتل الصحفي السعودي المعارض "جمال خاشقجي". وفي غضون ذلك، كان أحد المعالم البارزة في هذه الزيارة مرتبطًا بتصريحات أردوغان بشأن الحرب في اليمن في مؤتمره الصحفي بمطار إسطنبول قبل مغادرته إلى الرياض في 28 أبريل 2022. حيث أدان في تصريحاته، دون أن يذكر جرائم النظام السعودي المؤكدة ضد ابناء الشعب اليمني المظلوم، الهجمات الانتقامية لـ"أنصار الله" والجيش اليمني على مراكز حساسة في السعودية، واصفا أمن دول الخليج الفارسي بأمن تركيا. وتأتي تصريحات أردوغان في إدانة عمليات "أنصار الله" المشروعة والدفاعية في السياق الحالي لخفض التصعيد بين الرياض وأنقرة في وقت يدين فيه مرارًا هجمات التحالف بقيادة السعودية في حقبة الصراع الحاد بين السعودية وإيران. ويمكن اعتبار تصريحات أردوغان التي لا أساس لها من الصحة ضد قوى الشعب اليمني رمزا للنفاق في اتخاذ المواقف وتقويض كل القيم الإسلامية والإنسانية، وهو ما سيتم مناقشته في مقالنا هذا.
مواقف تركيا المتضاربة في حرب اليمن
في الأساس، إن الأزمات ومراكز الصراع في مختلف المناطق تخلق ضرورة تحديد الاستراتيجية من قبل القوى الإقليمية. ووفقًا لهذا المبدأ، فإن التطورات الثورية في اليمن في السنوات التي تلت عام 2011 جعلت البلاد واحدة من مراكز الأزمات الرئيسية في منطقة غرب آسيا وتطلبت تبني استراتيجيات من قبل الجهات الإقليمية مثل تركيا وإيران والمملكة العربية السعودية. وخاصة بعد بدء الغزو الوحشي لليمن من قبل التحالف العربي بقيادة السعودية في مارس 2015، أصبحت هذه الحاجة أكثر أهمية.
وفي غضون ذلك، برزت تركيا كواحدة من القوى الإقليمية التي تحتاج إلى اتخاذ موقف من الأزمة. وفي بداية التطورات الثورية في اليمن، دعمت أنقرة الحزب السلفي "الإصلاح" المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين، لكنها لم تتدخل بشكل فعال في التطورات في البلاد. لكن بعد بدء الهجمات العدوانية للتحالف السعودي على اليمن، اتخذت الحكومة التركية موقفًا سلبيًا ومحايدًا لاعتبارات خاصة في علاقاتها مع الرياض. وحتى في عام 2017، خلال زيارته للسعودية، أعلن أردوغان دعمه لعمليات النظام السعودي، لكن مع تصاعد التوترات بين السعودية واليمن أواخر عام 2017، تغير أيضًا موقف أردوغان من التطورات في اليمن. وفي الوقت نفسه، كثفت أنقرة من مواقفها الحادة والمنتقدة للوضع في اليمن وإدانتها للهجمات السعودية.
وعلى سبيل المثال، حذر أردوغان في مؤتمر صحفي في ديسمبر 2018 بالقول: "الوضع في اليمن مريع ووصل إلى نقطة لا تؤذي قلوب المسلمين فحسب، بل جميع البشر". وفي أكتوبر / تشرين الأول 2019، شدد أردوغان في بيان شديد اللهجة على أن السعودية يجب أن تنظر في المرآة وتتحمل مسؤولية مقتل عشرات الآلاف من الأشخاص في اليمن. أيضًا، في السنوات التي تلت عام 2020، أعرب أردوغان ومسؤولون أتراك آخرون مرارًا وتكرارًا عن قلقهم بشأن الوضع في اليمن، ووصفوا هجمات تحالف العدوان السعودي بأنها بمثابة جرائم حرب في اليمن.
لكن الآن، وفي دورة أخرى من دوراته الشهيرة بزاوية 180 درجة، وعلى عكس كل مواقفه خلال السنوات القليلة الماضية، خرج أردوغان مؤيدًا للسعوديين، وفجأة غير مكان الظالم والمظلوم في مواقفه. وفي التحليل الكلي، يمكن تقييم هذا النهج غير المستقر للحكومة التركية في سياق تكتيكات أردوغان الاستباقية تجاه التطورات الإقليمية، وفي خضم الأزمة اليمنية.
تغير مواقف أردوغان الغريب.. هذه المرة اختارت القرعة اليمن
لم تعد قصة تحولات أردوغان السحرية وانعطافاته ضد الممثلين والمعادلات المختلفة مفاجأة لأحد، ولا أحد يظن أنها مستبعدة. ويعد التحول في العلاقات مع روسيا وسوريا والولايات المتحدة وأوروبا ومصر، ومؤخرًا مع دول الخليج أحد أهم مظاهر عدم الاستقرار السياسي للرئيس التركي في اتخاذ قرارات السياسة الخارجية الكبرى. لكن في غضون ذلك، تجدر الإشارة إلى أن تحول أردوغان في قضية المجرمين مثل محمد بن سلمان له لون ورائحة مختلفان ولا يمكن تبريره بتبرير المصالح الوطنية لتركيا، لأن قبلة أردوغان المهينة لحكام السعودية واختياره الوقوف في وجه الشعب اليمني المظلوم، هو انتهاك لجميع المبادئ والقيم الإسلامية الإنسانية.
يبدو أن أردوغان نسي المجرم ومرتكب جريمة قتل "جمال خاشقجي" والذي لم يذكره منذ عدة أشهر، فاليوم يزوره في القصر الملكي بالرياض!. إن محمد بن سلمان، الذي يحتضنه أردوغان الآن بحرارة، سبق أن وصفه الرئيس التركي بأنه المجرم والسلطوي ومرتكب لمذبحة المواطنين اليمنيين الأبرياء. الآن علينا أن نسأل: "السيد أردوغان لم يكن بنفس اللطف في إحالة قضية مقتل جمال خاشقجي إلى السعودية، فلماذا الان وضع المعارضة ضد اليمنيين على جدول الأعمال من أجل تقديم خدمة جيدة للسعوديين؟"
الآن بعد أن تردد أسياد السعوديين (الأمريكيين والأوروبيين) في الدفاع عن المملكة العربية السعودية في مناقشة الحرب اليمنية وأصبحوا أكثر حذراً في اتخاذ المواقف، يزعم الشخص الذي يرى نفسه أنه الزعيم للعالم الإسلامي دون تردد أن هجماته الوحشية جاءت للدفاع عن الأمة الاسلامية والحقيقة أن جرائم الشعب اليمني هي مقاومتهم للمجازر السعودية والموت نتيجة الحصار والعقوبات. الآن يبدو أن الرئيس التركي باع أيضًا ادعاءه بالدفاع عن القيم الإسلامية والإنسانية للحصول على دولارات النفط السعودية، لكنه قد لا يكون على دراية بحقيقة أن مثل هذا القرار المثير للجدل سيؤدي إلى طرده من السياسة التركية في القريب العاجل.
رغم وجود توافقات مشتركة بين الجانبين السعودي والتركي، ورغبة كل طرف في الاستفادة من الآخر لتقوية موقفه إزاء العديد من القضايا الإقليمية إلا أن ثمة محددات مختلفة تؤثر على مدى التعاون بينهما، وعلى الثقة في اتخاذ خطوات مشتركة، وخاصة أن السعودية التي تدرك الأهمية الإقليمية لتركيا قد لا تحبذ أن يكون ذلك من خلال أردوغان بسبب فقدان الثقة به، ولعل لهذا السبب بدت زيارة أردوغان وكأنها من دون نتائج عملية مباشرة، ربما في انتظار معرفة من سيحكم تركيا بعد الانتخابات المقبلة، فالمشروعان التركي والسعودي يبدوان وكأنهما في صراع على قيادة العالم السني، ولكل طرف أدواته الايديولوجية والسياسية المختلفة مهما تم التقليل من شأن ذلك، أو القول إن تركيا بدأت تتخلى عن جماعات الإسلام السياسي، في الوقت الذي يعرف الجميع أن حزب العدالة والتنمية الحاكم هو نفسه من هذه الجماعات التي لها مشروع سياسي يطمح إلى الهيمنة والسيطرة، ولاسيما أن تركيا مازالت تحتل مناطق واسعة من سوريا والعراق، وتقيم قواعد عسكرية في ليبيا وقطر والصومال، وهو ما ترفضه السعودية.
وعليه مهما جرى الحديث عن أهمية فتح صفحة جديدة بين البلدين تبدو محددات الخلاف بينهما قائمة وقوية، فضلاً عن ذلك، فإن الحسابات والأولويات الخاصة للطرفين مختلفة، وتاريخ الدبلوماسية التركية يشهد المزيد من الانقلابات في هذه السياسة، وفي ضوء ذلك من يضمن أن أردوغان لن يصطف إلى جانب إيران على حساب السعودية إذا تم التوصل إلى اتفاق نووي جديد؟ معادلة ربما تجعل من زيارة أردوغان إلى السعودية ليست أكثر من محاولة من قبل الأخيرة لاستكشاف نياته، وانتظار ما سيرسي عليه المشهد التركي بعد الانتخابات، أي إن الأهداف التي يتطلع إليها أردوغان في الرهان على هذه الزيارة وغيرها، لتحسين موقعه الداخلي قد لا تتحقق وإن ساعدته على منع الانهيار الاقتصادي.