الوقت- كثيرة هي قصص الجواسيس الذين خانوا بلادهم فتعاملوا مع الأعداء. ولكن الغريب قصص التجسس بين الأصدقاء. حيث يحفل تاريخ الدول الكبرى بما في ذلك أمريكا وأوروبا بهذه القصص. وخاصة خلال السنوات الماضية التي لم تمر فيها أشهر دون مرور خبر عن تجسس أمريكي على مسؤولين ومؤسسات تابعة لدول حليفة لها. ومنذ أيام عادت الى الواجهة قصة تعود الى ﺛﻤﺎﻧﻴﻴﺎﺕ القرن الماضي لجاسوس أمريكي تجسس على أمريكا وشكل أكبر تهديد للأمن القومي الأمريكي على مدى التاريخ حتى لقبوه في أمريكا بخائن القرن. فمن هو هذا الجاسوس ولصالح من كان يعمل؟
انه جوناثان جاي بولارد، ولد عام 1954 في تكساس – أمريكا لعائلة يهودية تربطها علاقات بالکيان الاسرائيلي. بدأ بولارد بالعمل لصالح الاستخبارات البحرية الأمريكية عن عمر 25 عاما بصفة محلل استخبارات مدني. وعن عمر 30 عاما عرض على ضابط في سلاح الجو الاسرائيلي تزويد الکيان الاسرائيلي بمعلومات أمنية حساسة. وبالفعل بدأت مسيرة التعامل مع الکيان حيث زود الکيان الاسرائيلي بمئات آلاف الوثائق الحساسة بالاضافة الى مجموعة من كتب "وكالة الأمن القومي" التي تتحدث عن أساليب التجسس الامريكية. هذا بالاضافة الى ما يقارب 360 قدم مكعب من المستندات الخطية. طبعا لم تطل مسيرة الأخير الى أن وقع بأيدي مكتب التحقيقات الفدرالي وذلك بعد فشله في اللجوء الى السفارة الاسرائيلية في أمريكا مع زوجته. وبعد محاكمة طويلة حُكم عليه بالسجن المؤبد. وقد تحدثت تقارير عن أن بولارد قد تسبب بأكبر ضرر على الأمن القومي في تاريخ أمريكا. أما بالنسبة للکيان الاسرائيلي فقد أنكر لمدة طويلة علاقته ببولارد الى أن اعترف بها عام ١٩٩٨ وأعطاه الجنسية الاسرائيلية عام ٢٠٠٨ واعتبر قضيته مسألة يتحمل كافة عواقبها.
وبالعودة الى ظروف اعتقاله ورغم أن التجسس كان لمصلحة دولة تعتبر صديقة بالنسبة لأمريكا، الا أن ما حصل قد أثار سخطا كبيرا ليس فقط وسط المحافل السياسية والأمنية الأمريكية بل وسط جمهور أمريكي كبير مما أوقع اللوبي اليهودي هناك بإحراج جعله لا يحرك ساكنا لاطلاق بولارد لفترة طويلة.
ومن الملاحظ أنه في السنوات الأخيرة ازداد الضغط الاسرائيلي على أمريكا من قبل اللوبي اليهودي بهدف اطلاق سراحه. وقد استغلت الحكومات الاسرائيلية الظروف المناسبة في أكثر من فرصة لتحقيق هدفها باخراجه. الاصرار الاسرائيلي جعل من بولارد ورقة ضغط قوية بيد الادارة الأمريكية لاستغلاله في صفقة ما مع الكيان. ولكن ما جرى مؤخرا من اطلاق سراح مشروط أنهى المسألة دون أي ثمن يُذكر من قبل الکيان الاسرائيلي.
اذا الافراج عنه تم في وقت المستفيد الوحيد منه هو الکيان الاسرائيلي رغم أن البيت الابيض كان يستطيع الاعتراض على ذلك. وكل ذلك يأتي ضمن مسيرة استرضاء الكيان من قبل أمريكا بعد عدة أزمات مرت بين الطرفين ودون أي مقابل يذكر. حيث كان قد جرى الحديث سابقا عن اطلاق سراحه مقابل أسرى فلسطينيين متواجدين في سجون الکيان الاسرائيلي.
وفي ردود الفعل الاسرائيلية على الافراج أكد نتنياهو الذي يعتبر من أشد المدافعين عن قضية بولارد أن السلطات الأمريكية أفرجت الجمعة عن بولارد وقال في بيان إنه تم الافراج عن بولارد من يوم الجمعة بعد أن ظل وراء القضبان لاعوام، مضيفاً أن "اسرائيل ترحب بالافراج عن جوناثان بولارد، بعد ثلاثة عقود طويلة وشاقة عاد جوناثان أخيرا الى أسرته على أمل أن يكون السلام والسعادة هو ما ينتظره في المستقبل."
ويقول بولارد الذي يبلغ حاليا 61 عاما إنه يرغب في الهجرة إلى الكيان الاسرائيلي حيث تعيش زوجته الثانية ويتوقع الحصول على دعم مالي كبير من الحكومة الإسرائيلية، فيما ينص إطلاق سراحه المشروط على بقائه في أمريکا خمسة أعوام.
لم تنته القصة هنا حيث توجه بولارد بمرافقة محاميه الى القضاء الامريكي للوقوف على شروط اطلاق السراح وطلب الغاء شرط البقاء في امريكا وابقائه تحت المراقبة.
وأما في الكيان الاسرائيلي فقد كانت الفرحة هي سيدة الموقف فوزير القضاء الاسرائيلي اليميني المتطرف "ايلت شاكد" هنأه عبر صفحة الفايس بوك الخاصة به كما وضع صورة الأخير عليها.
كذلك قال نواب في الكنيست عن حزب اليسار "الاتحاد الصهيوني" وفي رسالة الى بولارد "نحن لن نرتاح ونكل حتى تتحرر بالكامل وتترك أمريكا باتجاه مقصدك الأول والأخير "اسرائيل"".
ومن جهة أخرى صرح أحد القضاة الامريكيين الذين شاركوا في محاكمة بولارد قائلا: "قضية بولارد من أخطر 10 قضايا تجسس في تاريخ أمريكا. أنا سعيد لأنه أمضى 30 عاما في السجن وأتمنى لو أنه قضى أكثر من ذلك".
اذاً قام الطرفان الاسرائيلي والأمريكي وللمرة الاخيرة بانهاء ملف من أكثر الملفات تعقيدا في تاريخ العلاقات بين البلدين دون أن تتمكن أمريكا من تحصيل أي منفعة من وراء هذا الافراج. بل ان كل ما قيل عن الضرر الذي أوقعه الاخير بالأمن القومي لأمريكا قد أصبح كلاما فارغا من المعنى بمجرد اطلاق سراح بولارد.
