الوقت- بعد أن تعرّضنا في الجزء الأول لسرد تاريخي حول الحروب الأمريكية في المنطقة، سنحاول في الجزء الثاني والأخير تحليل آثار إستراتيجية "الإرتكاز الآسيوي" على منطقة الشرق الأوسط.
قامت إستراتيجية "الإرتكاز الآسيوي" على سببين أو دافعين رئيسيين، الأول لم يعد يمثّل نفط المنطقة الأهمية القصوى التي مثَلها لأمريكا حتى مطلع العقد الحالي، وذلك بسب النفط والغاز الصخريين، الذي من المتوقع أن يجعل من واشنطن لاعبًا مهمًا في عالم النفط والغاز. وأما الدافع الثاني، يتمثّل بأهمية منطقة "آسيا والهادئ" (Asia-Pacific) التي تستحوذ على أكثر من نصف سكان العالم، ويمثّل إنتاجها الاقتصادي أكثر من نصف الإنتاج العالمي، إضافةً إلى دورها البارز في الإقتصاد الأمريكي، كما أن بها خمسة بلدان تتمتع بمعاهدات تحالف عسكري مع واشنطن (اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا وتايلاند والفلبين). اليوم تريد واشنطن إعادة التوازن هناك، لاسيّما بعد أن أعلنت الصين في نوفمبر الماضي عن "مجال تحديد الدفاع الجوي" (ADIZ) الخاص بها، والذي يتسّع ليتداخل مع نظيره الیاباني بشكل كبير ليضم جزر "سينكاكو" المتنازع عليها، طبقاً لما أعلنته الصين. لا نريد الدخول بآثار هذا الإنسجاب الأمريكي على المنطقة الأىسيوية، بل سنقتصر بالبحث على منطقة الشرق الأوسط.
أبرز الآثار
أرادت واشنطن من خلال إستراتيجية "الإرتكاز الآسيوي" خلط الأوراق في منطقة الشرق الأوسط بعد إنسحابها التدريجي، وربّما إعادة سيناريو الحرب الأهلية الأفغانية حتى العام2000 مما أضفى مزيداً من الأمن والإستقرار على منطقة الشرق الأوسط. بعبارة آخرى، اليوم تريد واشنطن حماية جنودها في أفغانستان وتلك المناطق، لذلك لابد من إختلاف دافع يسير بالتكفيريين نحو منطقة الشرق الأوسط، وسوريا والعراق تحديداً، فأمريكا لا تريد حالياً العبث بأمن دول مجلس التعاون نظراً للقواعد المتواجدة هناك والتي بدأت بالإنسحاب منها تدريجياً.
وعند مراقبة التصاريح الأمريكية تكاد تذعن بوجود نية مسبقة لدعم التنظيم، بدءاً من إعلان الإدارة الأمريكية على لسان كيري أن الحرب مع داعش ستمتد لسنوات، وليس إنتهاءاً بالتصويب على التدخل الروسي في سوريا. إن الزيارة الأخيرة لـ"سيف العدل" الضابط المصري المنشق وصديق بن لادن والقائد العسكري في تنظيم القاعدة إلى إدلب منذ أسابيع، بناءً على أوامر شيخ القاعدة أيمن الظواهري الذي يحلم بمصالحة إخوة الجهاد والتحالف مع داعش ضد الروس، تصب في هذه السياق حيث تريد واشنطن تكرار تجربة "الجهاديی" مع الروس، ولكن في سوريا هذه المرّة. المصالحة تعني هجرة ألاف المقاتلين من أفغانستان وباكستان ودول آسيا إلى أرض القتال ضد الروس، إلا أنه يبدو أن العقبات كبيرة أمام هذه المصالحة التي تهدف لإنشاء أكبر جيش تكفيري قوامه بين العشرين والثلاثين ألف مقاتل، ولكن لا يصعب على الإستخبارت الأمريكية حلحلة مثل هذه الأمور. إن إتمام المصالحة يهيئ أرضية مناسبة للقواعد الأمريكية التي تسعى للإقتراب من الصين، سواء من الناحية الشرقية (اليابان، كوريا الجنوبية والفلبين) أو الغربية (الهند، باكستان وأفغانستان).
من آثار الإنسحاب الأمريكي من المنطقة، وبالتالي إيجاد واقع شبيه بالحرب الإفغانية، هو إعطاء هامش أكبر للحلفائها في المنطقة، وعلى رأسهم الكيان الإسرائيلي والسعودية وتركيا، ولعل هذا الأمر ما يفسر السكوت الامريكي عن العدوان السعودي على اليمن، والحرب التركية على الأكراد. من المفترض أن يغيب الكيان الإسرائيلي عن المعادلة خشية أن تتوحد البنادق تجاهه، ففي ظل الإقتتال الداخلي بين العرب والمسلمين، الخيار الأمثل هو الترقّب و"صب الزيت على النار".
فيما يخص طهران، ستسعى واشنطن لمهادنتها شكلياً في الوقت الراهن، واللجوء إلى توتير أوضاعها الداخلية من ناحية، وربّما تشجيعها على التدخل في سوريا اذا ما تمّت المصالحة بين الجماعات التكفيرية، ولا نستغرب أن تلجئ واشنطن للعب على الوتر الإيراني-التركي، علها تنجح بالإصطياد في الماء العكر. وأما تركيا، فمن المتوقع أن تتصاعد أزمتها الداخلية، تماماً كما فعلت واشنطن في العراق.
العقبة الرئيسية
كانت مُفترضات إستراتيجية "الإرتكاز الآسيوي" تجري على قدم وساق في منطقة الشرق الأسوط، إلا أن التعاون العسكري الروسي-الإيراني، ضرب الإستراتيجية الأمريكية في الصميم، ولعل هذه الأمر يفسر الضوضاء الأمريكية ومسارعتها لعقد مؤتمر فيينا حول سوريا، وبمشاركة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، رغم أنف السعودية.
الهدف الأمريكي هو تقوية الجماعات التكفيرية، لتوريط الروسي ومحاصرة الإيراني وإستنزاف حزب الله اللبناني من ناحية، وإدخال المنطقة التي إنخفضت أهميتها الإقتصادية لواشنطن في حقل الصراع الطائفي والمذهبي والعرقي من ناحية آخرى. إلا أن التدخل الروسي -الإيراني الذي يريد القضاء على هذه الجماعات في وقت قصير، سيؤثر على واشنطن، ليس فقط في منطقة الشرق الأوسط، بل أيضاً في "الإرتكاز الآسيوي" حيث من المفترض أن ترحل هذه الجماعات نحو سوريا، وبالتالي ستبقى عبء كبير على كاهل واشنطن هناك.