الوقت- جيرمي كوربين رئيساً لحزب العمال البريطاني.. خبر قد لا يعني الكثير لأغلبية عالمنا الاسلامي والعربي الذي يعيش أزمات لا حصر لها، لكنه قد يعنى الكثير للمهتمين بسياسات الغرب تجاه المنطقة.
ففي خضم التحولات التي تشهدها بريطانيا أُعلن عن انتخاب كوربين رئيساً جديداً لحزب العمال والذي وصفته وسائل الاعلام بالزلزال السياسي باعتباره من المعارضين للسلاح النووي والحرب على العراق، ومن المطالبين بزيادة الاستثمارات الحكومية من خلال طبع الأموال وإعادة تأميم قطاعات واسعة من الاقتصاد وكذلك من المعارضين لسياسة التقشف.
فمن هو جيرمي كوربين؟ وما هي دلائل وتداعيات انتخابه لرئاسة حزب العمال؟
ولد جيرمي كوربين في مدينة تشبنهام البريطانية عام 1949 وسط عائلة ثرية من الطبقة الوسطى وتلقى تعليمه في مدارس خاصة، وهو عضو في مجلس العموم البريطاني (البرلمان) منذ 1983 عن إزلينغتون الشمالية.
ومنذ دخوله مجلس العموم عُرف كوربين بنشاطه السياسي حتى إنه تعرض للاعتقال عام 1984 خارج سفارة جنوب أفريقيا لأنه كسر حظراً للتظاهر، وذلك في عهد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وعرف عنه أيضاً عداؤه المعلن لسياسات الكيان الإسرائيلي والغرب تجاه الشعب الفلسطيني.
ويشارك كوربين في منظمتي "ائتلاف أوقفوا الحرب" و"حملة نزع السلاح النووي"، وهو ناشط متحمس من أجل السلام، ويرفض طريقة عمل حلف شمال الأطلسي الحالية ويؤيد تفكيك نظام "ترايدنت" للغواصات النووية البريطانية. ويعبّر كذلك باستمرار عن حذره من "نظام السوق" الذي يطبقه الاتحاد الأوروبي، وقد حظي بدعم 35 خبير اقتصاد، أيدوا في رسالة مفتوحة سياساته ومواقفه في المسألة الاقتصادية.
كما عارض بشراسة سياسة التقشف التي اعتمدتها حكومة ديفيد كاميرون المحافظة، ورفض مشروع اتفاق التبادل الحر بين أوروبا وأمريكا، لكنه لم يفصح حتى الآن عن الموقف الذي سيتخذه في استفتاء موعود قبل نهاية 2017 على مسألة عضوية بريطانيا في الاتحاد الاوروبي.
وبعدما أمضى 32 عاماً في المقاعد الخلفية لحزب العمال، فاز كوربين في 12 سبتمبر/أيلول 2015، برئاسة الحزب من الجولة الأولى في مؤتمر استثنائي بنسبة 59.5% في انتخابات تفوق فيها بفارق كبير على منافسيه الثلاثة (أندي بورنهام وإفيت كوبر وويلز كيندل).
وفي اليوم الأول لاستلامه مهام عمله الجديد سعى كوربين لتشكيل فريق عمل يحتل المقاعد الأولى في البرلمان (أي حكومة الظل). كما شارك في مظاهرة حاشدة لدعم اللاجئين دعت لها منظمات منذ فترة.
وقبل انتخابه رئيساً لحزب العمال تعهد كوربين بتقديم اعتذار عن مشاركة بلاده في غزو العراق بقيادة رئيس الوزراء السابق توني بلير عام 2003 والتي لايزال حزب العمال يعاني من تبعاتها. وأكد إن الوقت قد حان لكي يقدم الحزب اعتذاراته للشعب البريطاني لأنه جرّه إلى هذه الحرب مستنداً إلى خدعة، وللشعب العراقي على العذابات التي ساهم في إلحاقها به.
وما أن أعلِن فوز كوربين برئاسة حزب العمال حتى هاجمته الصحافة الإسرائيلية بشراسة، متهمة إياه بمناصرة القضية الفلسطينية وكونه من الداعين إلى حظر بيع الأسلحة إلى كيان الاحتلال ومن أكثر المتحمسين لإجراء تحقيقات دولية لإدانة جرائمه خلال عدوانه على قطاع غزة ولبنان، ومن المطالبين بوقف المستوطنات وفك الحصار عن غزة.
والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا انتخب الشعب البريطاني شخصاً كـ(جيرمي كوربين) لرئاسة حزب العمال في وقت تفرض سياسة العسكرتارية والاستعمار نفسها على الهيكلية السياسية في بريطانيا؟
لاشك ان الاجابة عن هذا التساؤل تكمن في شعارات كوربين نفسه، فاطلاقه شعارات رفض سياسة التقشف والاجراءات المجحفة بحق المهاجرين وانتقاداته اللاذعة لدعاة الحرب في الحكومة البريطانية يكشف بوضوح التغيير الحاصل في نظرة المجتمع البريطاني لسياسات الحكومات البريطانية.
فالشعب البريطاني يبحث منذ سنوات عن شخصية تعارض الحرب والتقشف والتدخلات في شؤون الدول الاخرى والتمييز العنصري والعسكرتارية، وما يؤكد ذلك هو تنظيم عريضة موقعة من قبل أكثر من مئة الف بريطاني ضد سياسات رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو وتطالب باعتقاله وتقديمه الى المحاكمة.
ويقول كوربين إن كونه زعيماً لحزب العمال يمكن أن يوفر الأمن للمواطنين الأوروبيين ويحميهم من الإرهاب، من خلال الابتعاد عن أمريكا، ويضيف أنه يجب "ألا نكون جزءاً من السياسة الخارجية الامريكية، وينبغي أن نحمي أنفسنا من خلال فهم التنوع الديني والتطلعات الدينية في أنحاء العالم كله، وأن نتحول إلى قوة للدفاع عن حقوق الإنسان لا قوة للتدخل العسكري".
وباختصار يمكن القول ان انتصار (كوربين) لم يكن صدفة ولا حدثاً عارضاً، بل جاء نتيجة لحالة من الغليان استمرت اثني عشر عاماً نجح خلالها بالحصول على دعم وتأييد جيل جديد وفتي من المقترعين الذين سئموا السياسيين الذين يتصرفون كما لو كانوا آلات لا شعور لها. فالذين صوتوا لكوربين يطلبون زعيماً قادراً على تغيير الأمور نحو الأفضل، ويتطلعون إلى كلام صريح صادق وإلى زعيم يثبت لديه الالتزام والأمانة والاخلاص والاستقامة.
ويعتقد المراقبون ان انتخاب حزب العمال لكوربين يمثل نقلة نوعية في تاريخ الحزب، بإعتباره جاء لطرح سياسة جديدة وتزريق دماء شابة في عروق الحزب إلاّ أنهم يؤكدون في الوقت نفسه أنه من السابق لأوانه التعرف على ما سيحمله المستقبل لبريطانيا.
ختاماً يمكن القول: ان انتخاب كوربين لرئاسة حزب العمال يمثل تحولاً مهماً في السياسة البريطانية بسبب مواقفه المُعارضة لهذه السياسة على الصعيدين الداخلي والخارجي، ولأنه يؤكد على أهمية التقرب الى الجماهير وإجراء تغييرات اقتصادية جذرية كتأميم شركة سكك الحديد وتقليل نفقات التعليم ورفع الضرائب عن الطبقة الفقيرة من الشعب والتي لاقت صدى واسعاً في المجتمع البريطاني، بالإضافة إلى طموحاته بقيادة حزبه للفوز في انتخابات عام 2020 وإعادة العمال إلى سدة الحكم.