الوقت – عَلِمَ التُرك أنّ المهزلة التي شَكّلت في الرياض وحملت اسم "محكمة" لم تكن أكثر من مجرد مسرحيّة أبطالها قاضٍ فاسد وجُناةٌ تمّ تبرئتهم من واحد من أفظع جرائم العصر، أما مُخرج هذه المسرحية الهزلية فهو ولي عهد آل سعود محمد بن سلمان الذي تفنن بقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، واستحق –ابن سلمان- وعن جدارة لقب "أبو منشار" بعد أن أمر زبانيته بتقطيع الخاشقجي.
وبناءً عليه؛ شكّلت تركيا محكمة خاصة بها لمُقاضاة قتلة الخاشقجي والذي وصل عددهم إلى ثمانية عشر شخصاً، وهو الأمر الذي لاقى ترحيباً من قبل أصدقاء جمال الخاشقجي بالإضافة لمنظمات الحقوق الإنسان التي وجدت في أحكام محاكم آل سعود عبارة عن تظليل للعدالة، ورأوا في المحكمة التركية خطوة مُهمّة في المضي قدما في البحث عن العدالة في مقتل الخاشقجي.
مُحاكمة حقيقيّة
منذ شهورٍ مضت؛ خرجت علينا المحاكم السعودية بأحكامٍ اعتبرها الكثير أحكاماً مُشوّهة هدفها إبعاد القتلة الحقيقيين عن دائرة الاتهام، وجلب آخرين غير معروفين ووضعهم خلف القضبان أو إنزال حكم الإعدام ضدّهم، حيث حاكمت حكومة آل سعود 11 رجلاً بتهمة القتل، وحكمت على خمسة منهم بالإعدام في ديسمبر/ كانون الأول، لكن المحكمة لم تُحاكم المسؤولين الحقيقيين عن اغتيال الخاشقجي، كما أنّها أفرجت عن أبرز المتهمين في تلك القضيّة وهم سعود القحطاني مستشار ولي العهد السعودي، وأحمد العسيري نائب رئيس المخابرات السعودية، ثمّ ما لبثت أن أجبرت أبناء الخاشقجي على التنازل عن دم والدهم، ليخرج الجميع من القضيّة بريؤون براءة الذئب من دم ابن يعقوب.
لكن وعلى الجانب الآخر، لم تقبل المحاكم التركيّة بالمهزلة السعودية، لتخرج بلائحة اتهامٍ ضمّت 18 مُتهماً بارتكاب جريمة قتل والتعذيب بوحشيّة، مُحضرةً عدداً من الشهود من الأتراك الذين عملوا في القنصلية، ليؤكد العمال جميعهم إنهم أُمروا بعدم الذهاب إلى مقر القنصلية في ذلك اليوم.
أكثر من ذلك؛ يستند المدعي العام في اسطنبول على أدلة من سجلات مواقع الهاتف المحمول للمتهمين، وسجلات دخولهم وخروجهم من تركيا، ووجودهم في القنصلية، كما تم استخلاص الأدلة من عمليات البحث في غرف الفنادق والقنصلية ومقر القنصل، من هاتف السيد خاشقجي المحمول والكمبيوتر المحمول والآيباد وبالتأكيد من أقوال الشهود.
مطلب دولي
المُحاكمة التي تُجريها تركيا هذه الأيام والتي لاقت ترحيباً من منظمات حقوق الإنسان ومن أقارب وأصدقاء الخاشقجي، كانت أيضاً مطلباً دولياً، حيث طالبت الأمم المُتحدة بإجراء تحقيق شفاف ومحايد في قضية مقتل الخاشقجي، داعيةً جميع الأطراف مع (السلطات التركية والسعودية) لتبادل الأدلة التي جمعتها للخروج بتحقيقٍ عادل، وهو ما رفضته السعودية مراراً وتكراراً.
مقررة الأمم المتحدة الخاصة والمعنيّة بعمليات القتل خارج نطاق القضاء أجنيس كالامارد، والتي وصلت إلى إسطنبول يوم الخميس، أكّدت أن المُحاكمة التركية توفر أقرب فرصة للعدالة المتاحة في مقتل خاشقجي، مُضيفةً أنّ هذه المحاكمة ليست بديلا عن تحقيق دولي بقيادة الأمم المتحدة، تقول كالامارد: "نأمل أن تكون مجرد نقطة انطلاق أخرى على الطريق لضمان إجراء مثل هذا التحقيق، وبهذا المعنى فهذه المُحاكمة قيمة بشكل لا يصدق".
محاكمة سياسيّة
لا ريب أنّ هذه المحاكمة والجهود الأخرى التي بذلتها السلطات التركية كانت مهمة في إبقاء جريمة قتل الخاشقجي في دائرة الضوء دون السماح بنسيانها، وعلى الرغم من سمعة تركيا السيّئة في السنوات الأخيرة بسبب سوء تطبيق المعايير القضائية وانتقائيتها؛ إذ يفتقر النظام القضائي في تركيا للاستقلال نوعاً ما، يُتخوّف أن تُسيئ أنقرة استخدام حقوق المُدّعى عليهم لتحقيق أغراض سياسيّة.
ويُتوقع أيضاً أن تستخدم أنقرة هذه المُحاكمات (العادلة) لكسب نقاط في المواجهة المفتوحة مع مملكة آل سعود، فالخلاف التركي السعودي معروف، ومن المتوقّع أنّ يستخدم السيد أردوغان هذه المحاكمة لإحراج ولي عهد آل سعود، بعد أن حيّدته محاكم السعودية من القضيّة.
ومع ذلك؛ فإنّه ومع بدء إجراءات المحكمة فإنّ ذلك يُعتبر مؤشراً على أن تركيا ورئيسها، رجب طيب أردوغان - الذي كان يعرف خاشقجي شخصياً، وكان غاضبًا من أن عمليّة القتل تمّت في إسطنبول - مصممون على ملاحقة المسؤولين عن هذه الجريمة، حتى تورط ابن سلمان الحاكم اليومي لمملكة آل سعود.
وفي النهاية؛ لم يحضر أيٌّ من المتهمين للمحاكمة، وذلك بعد أن رفضت مملكة آل سعود تسليمهم، وفعلياً لم يتضح بعد ما إذا كان يمكن للمحكمة متابعة القضية بشكل قانوني بدون متهمين، أو أنّها ستُتابع بهذا الشكل بدون جلب المُتهمين، لكن المُتابع لسير القضاء في تركيا ومنذ التسعينيات، يعلم جيداً أنّ الحكومة التركية لم تترك مُتهماً فاراً من العدالة، ولو طال الزمن بها، ولنا في عبد الله أوجلان خير مثالٍ على ذلك، بالإضافة لغيره الكثير ممن تمكّنت المخابرات التركيّة من جلبهم أحياء إلى أنقرة بعد مُتابعة طويلة، ولن يكون العسيري أوّ القحطاني أكثر حيطة من أوجلان أو غيره ممن أحضرتهم المُخابرات التركية.