الوقت- خلال الحقبة الماضية اتبعت أمريكا سياسات متعددة تجاه منطقة آسيا والباسيفيك، وكانت هذه السياسات تهدف في مجملها إلى حفظ المصالح الأمريكية في تلك المنطقة، وتقليل امتيازات الدول الأوروبية هناك وتسهيل نفوذ أمريكا إلى السوق الصينية، وطيلة الحرب الباردة تحالفت أمريكا مع دول كثيرة كأستراليا واليابان والفيليبين وغيرهم من الدول وذلك حفظًا للتواجد الأمريكي في المنطقة، وبعد انتهاء الحرب أبقت واشنطن روابطها مع عدد محدود من دول المنطقة.
من "بوش" إلى "أوباما":
مع بدء القرن الجديد، وبروز "جورج بوش" الابن، كان يُتوقع أن تتغير السياسة الأمريكية تجاه منطقة آسيا والباسيفيك، ولكن بسبب هجمات 11 أيلول، وظهور ما يُسمى "الحرب على الإرهاب"، لم تتسن الفرصة لتغيير السياسة الأمريكية، وخلال هذه المدة التي قل فيها التواجد الأمريكي استطاعت الصين الحفاظ على نموها الاقتصادي بما يقارب 7%، وهذا ما حسَّن علاقات الصين مع دول الجوار، وباتت هذه العلاقة تعتمد على التعاون المشترك، الأمر الذي أنتج تحالفات جديدة في آسيا وخصوصًا شرقها، فظهر اتحاد دول جنوب شرق آسيا المعروف اختصارًا باسم "آسيان" ( (ASEAN ، وغيره من المنظمات.
بعد وصول أوباما إلى الحكم في واشنطن وإعلانه عن تبدل السياسة الأمريكية، عادت منطقة الباسيفيك إلى واجهة السياسة الأمريكية، وعاد الاهتمام الأمريكي بهذه المنطقة إلى سابق عهده، وقد أكد "كيرت كامبل"، مساعد وزير الخارجية الأمريكي في شؤون الباسيفيك وشرق آسيا، أن القسم الأعظم من تاريخ القرن الـ21 سَيُكتَب في منطقة المحيط الهادئ، وكل شخص لا يدرك هذا الأمر عليه أن ينظر إلى التجارة والتعليم والسكان وتغيرات المناخ في تلك المنطقة، كما أن "هيلاري كلينتون" أكدت عام 2011 أهمية هذه المنطقة، وقالت إن مستقبل السياسة سيُرسم في آسيا، ليس العراق أو أفغانستان.
في الحقيقة ترى واشنطن أن التغيرات الاقتصادية والأمنية في منطقة الباسيفيك تشكل تحديات لأمريكا التي ترى نفسها القوة العسكرية الأكبر، ولهذا حاولت أمريكا مد جسور التعاون مع دول الباسيفيك وشرق آسيا لجلب الثقة المتبادلة ولتحافظ على أكبر قدرٍ ممكن من الثقل في تلك الدول، ولكن القرار الأمريكي باتخاذ هذه السياسة جاء عندما بدأت أمريكا تعاني انحسارًا في نفوذها وقدرتها في شرق آسيا ومنطقة الباسيفيك.
التوجه الآسيوي:
اتجاه واشنطن إلى منطقة شرق آسيا يعتبر تحولاً هامًا في الاستراتيجية الأمريكية التي طالما ركزت اهتمامها على الشرق الأوسط وأوروبا، واعتماد استراتيجية "التوجه إلى شرق آسيا" عام 2012 دفع واشنطن إلى تقوية علاقاتها مع دول شرق آسيا، وتوسيع العمل المشترك، وبناء التحالفات العسكرية، والتعاون مع الدول الصاعدة كالصين، بالإضافة إلى توسيع التبادلات التجارية، والتواجد العسكري، وهذه التبدلات تشمل بشكل عام ثلاثة محاور، المحور العسكري-الأمني، والمحور الاقتصادي-التجاري، والمحور الدبلوماسي.
1- عسكريًا وأمنيًا:
في السنوات الأخيرة سعت أمريكا إلى تقوية تواجدها العسكري في منطقة شرق آسيا، فعمدت إلى التحالف العسكري مع عدد من الدول، كاليابان وكوريا الجنوبية، وأستراليا، وتأتي الفليبين وتايلندا في الدرجة الثانية، كما عمدت واشنطن إلى الحد من قدرة الصين من خلال إبرام الاتفاقيات الدفاعية مع اليابان، بالإضافة إلى أن تهديدات أمريكا المستمرة للصين واعتراضها على بناء الصين للجزر الصناعية، واتهام بكين بعدم الاهتمام بأمن دول الجوار، وكل هذا يوضح سعي واشنطن لتحجيم الصين مقابل تقوية النفوذ الأمريكي شرق آسيا، وما يدل على سعي أمريكا لتوسيع نفوذها العسكري في تلك المنطقة التوافق الذي وقعته مع الفيليبين على بقاء القوات الأمريكية فيها عشر سنوات بالإضافة إلى إنشاء قواعد عسكرية هناك، وکذلك المناورات الأمريكية المشتركة مع اليابان وأستراليا.
2- اقتصاديًا وتجاريًا:
تحاول واشنطن من خلال بناء علاقات اقتصادية مع دول المنطقة تحجيم الدور الاقتصادي للصين وتقليل نموها، وأكبر دليل على ذلك التوقيع على اتفاقية الشراكة عبر الباسيفيك (tpp ) واستثناء الصين منها، ومن غير المتوقع أن تنجح المشاريع الأمريكية التجارية في منطقة الباسيفيك وشرق آسيا.
3- دبلوماسيًا:
يمكن تقسيم السياسة الأمريكية العامة في منطقة آسيا إلى توجهين، الأول تسعى واشنطن من خلاله إلى إدارة الخلافات مع الصين ومحاولة كسب ثقة بكين وتحسين الروابط معها، والتوجه الثاني تحاول أمريكا تحجيم الصين والحد من قدراتها ونموها.
تركيز أمريكا على منطقة شرق آسيا يظهر من خلال زيارات وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة "كلينتون"، بالإضافة إلى الوزير الحالي "كيري" إلى دول آسيا الشرقية، وتعتبر هذه الزيارات أكثر بالمقارنة مع زيارات وزراء الحكومة الأمريكية السابقة، بالإضافة إلى مشاركة واشنطن في العديد من تكتلات دول شرق آسيا، ويرى سياسيون أن التوجه الأمريكي المتزايد إلى تلك المنطقة قد يفسد الأمن والاستقرار هناك، ويضربون على ذلك الشرق الأوسط مثالاً، فهل ستواصل واشنطن تغلغلها في ملعب الصين، أم أنها ستقف عند حدها؟ هذا ما ستكشفه السنوات القادمة.