الوقت- بات الحديث عن تمدد تنظيم داعش الارهابي في ليبيا مثار بحث لدى الكثير من المراقبين والمهتمين بالشأن الليبي بسبب الانتشار غير الطبيعي لعناصر هذا التنظيم في هذا البلد الافريقي.
فهذا التنظيم الذي تتصف تحركاته بالسرعة والذي نشأ في رحم الدولة الليبية الهشّة وغياب التوافق الوطني تمكن حتى الآن من السيطرة على عدد غير قليل من المدن الليبية بما فيها من مرافق حيوية وإدارات ومؤسسات من خلال شن هجمات اتسمت بالقسوة وإعدامات نُفذت بوحشية بحق عدد كبير من المدنيين والعسكريين على حد سواء.
وبدأ داعش بلفت الأنظار إلى نفسه في ليبيا عبر تنفيذ عدة عمليات ارهابية كانت أبرزها ذبح 21 مصرياً مسيحياً بعد اختطافهم، وبثّه لمقطعٍ مصورٍ عن هذه الجريمة كنوع من استعراض القوة، وهو ما دعا مصر للتفكير بقيادة عمليات عسكرية ضد قوات "فجر ليبيا" التابعة للمؤتمر الوطني تحت هذه الذريعة. ولم يلبث داعش أن اختفى حيناً حتى ظهر بمقطعٍ مماثل لذبح المسيحيين المصريين، لكن هذه المرة بذبح 28 مواطناً إثيوبياً.
وبعد ذلك خطط داعش لفتح جبهات أخرى بالدخول في نزاعات مسلحة مع قوات موالية للمؤتمر الوطني الليبي في أكثر من مكان، معتمداً هذه المرة على تكتيكات حروب العصابات، وهو ما حذر منه قادة الكتائب المقاتلة في هذا البلد والتي استهدفها داعش بعمليات انتحارية أسقطت الكثير من القتلى والجرحى.
ويبدو أن المعارك بين قوات فجر ليبيا والكتائب الموالية لها قد شغلتها عن الانتباه لتحركات داعش التي اتخذت شكلاً توسعياً في الآونة الاخيرة.
ويساور الجميع الآن القلق من أن يتمدد هذا التنظيم الإرهابي في مدن ليبية أخرى، مستغلاً حالة الفوضى التي تعيشها البلاد خصوصاً بعد أن سعى هذا التنظيم إلى السيطرة على مدينة درنة شرق البلاد وبعض حقول النفط الممتدة على ساحل البحر الابيض المتوسط.
ولا شك أن تمدد داعش بسرعة في مناطق استراتيجية في ليبيا يؤكد أن هذا التنظيم يتحرك ضمن خطة مرسومة بدأت باحتلال الأرض وربما تنتهي بتهديد دول الجوار عاجلاً أو آجلاً إذا لم تتخذ الاحتياطات الضرورية وفي مقدمتها تكثيف الرقابة على الحدود وتنمية الجهد الاستخباري ومقاومة التهريب الذي أصبح يشكل العمود الفقري في تمويل هذا التنظيم الارهابي. والاخطر في هذه الحالة أن الفكر الارهابي الداعشي بدأ ينتشر في العديد من مناطق ليبيا في ظل غياب الدولة وسلطتها كما أسلفنا.
وأما بخصوص تمويل داعش فيأتي حسب بعض المتابعين من مصدرين؛ الأول: "الغنائم" المتأتية من حوادث النهب والسلب التي تُعرف باسم "الاحتطاب" لدى هذا التنظيم، والثاني مردودات بيع السلاح والمخدرات التي تدر أموالاً طائلة يسخرها هذا التنظيم لتحقيق أهدافه وتنفيذ عملياته الارهابية.
ويرى البعض أن مستقبل ليبيا بات مخيفاً ليس فقط بسبب العمليات الاجرامية التي تنفذها الجماعات الارهابية وفي مقدمتها "داعش"؛ بل أيضاً بسبب التيارات السياسية المتصدرة في هذا البلد التي تتقاتل فيما بينها ولا توجه جهودها نحو مقاتلة تلك الجماعات. ولهذا يؤكد المراقبون أن داعش ومن معه من العصابات الارهابية ربما ستلتهم ما تبقى من التراب الليبي إذا لم يغير الليبيون أنفسهم سياستهم ويتقبلوا فكرة الحكم التشاركي.
وبعد التطورات الخطيرة التي شهدتها ليبيا والتي حوّلت الكثير من مدنها الى ساحات لتنفيذ قرارات الاعدام التي يصدرها داعش والى معاقل لتدريب الوافدين من شمال أفريقيا للانضمام الى هذا التنظيم، انتبهت بعض القيادات الليبية لخطر هذا التنظيم وبدأت بالتنسيق مع الكتائب الموالية لها في بعض المدن لشن مجموعة عمليات تستهدف بؤر هذا التنظيم وهو ما سيدخل في المعادلة طرفاً جديداً لم يكن في الحسبان.
ويعتقد المراقبون ان الأوضاع الميدانية الحالية في ليبيا تنبئ بتوسع داعش ودخوله مرحلة جديدة، وهو ما سينعكس سلباً على القضية الليبية ككل. وهذا أمر طبيعي؛ فعندما يكون البلد في حالة حرب أهلية لا يتوقع أحد غير تنامي الجماعات الارهابية والمتطرفة وشيوع فوضى السلاح وتعدد المتدخلين في الشأن الداخلي، في وقت أصبح المعتدلون عملة نادرة يصعب العثور عليها في ليبيا، وإذا وُجدت في الخارج فهي غير فاعلة. والمشكلة التي يطرحها داعش في هذا البلد تكمن في نموذجه المتفلّت في الوحشية والممعن في الذبح وسفك الدماء من جانب، وتعثر التسوية السياسية بين اطراف الصراع الليبي الذي وفّر مناخاً خصبا لتمدد هذا التنظيم على الأرض من جانب آخر. وكما هو معلوم كلما طال أمد الصراع، تمدد معه الإرهاب أكثر وأكثر.
وعلى المستوى الإقليمي يلاحظ أن استمرار سيطرة داعش على مناطق واسعة في ليبيا خلق مناطق محتلة أو شبه محتلة على حدود هذا البلد مع دول الجوار لاسيما مصر وتونس والجزائر. ويرجح بعض الخبراء أن تؤدي هذه التطورات إلى تسريب كميات كبيرة من السلاح نحو هذه الدول ولهذا ضاعفت الجزائر ومصر من عدد جنودها على الحدود مع ليبيا، كما شرعت تونس في بناء جدار ترابي مع هذا البلد بكلفة تزيد عن 100 مليون دينار تونسي. ومن المرجح أيضاً أن يتعاظم التهديد الإقليمي لداعش يوماً بعد آخر، وقد تصبح منطقة شمال إفريقيا برمتها مفتوحة على كل الاحتمالات ما يجعلها بالتالي تستنفد جهودها وثرواتها من أجل التسلح لمواجهة هذا التنظيم بدلاً من توظيفها في مجالات التنمية، خصوصاً أن داعش ضمّ في صفوفه عدداً لايستهان به من الليبيين وأخضعهم للإعداد العسكري والأيديولوجي، وكان من الطبيعي أن يكلّفهم بمهمات في بلدهم أو بلدان أخرى طالما بقيت الفرصة متاحة في ظل الانقسام والتنافس على السلطة في ليبيا والذي فسح المجال لكل مَن هبّ ودب في دخول الحلبة.
والهدف بالنسبة لداعش في ليبيا يبدو أنه استراتيجي إلى حد كبير، فالدولة الليبية بحالها الآني توفر فرصة لن تتكرر لانتشار التنظيم وبسط نفوذه في وسط حالة الفوضى التي يجيد التنظيم استغلالها والتمدد من خلالها. فهذا التنظيم الإرهابي ينظر إلى ليبيا باعتبارها بوابة يمكن الهروب إليها في حال انهيار قواته بشكل كامل في دول أخرى لاسيما العراق وسوريا، فالبيئة الليبية توفر لهذا التنظيم الملاذ والتمدد المطلوب الذي سيؤمن له الاتصال بالداخل الإفريقي عبر تشاد والسودان، كما كانت بوابة له للوصول إلى مصر وباقي دول الشمال الافريقي (تونس والجزائر والمغرب).