الوقت- وسط معرفة الامريكيين من خلال جواسيسهم في السجن وكذلك من خلال افادات اشخاص كانوا قد خرجوا من سجن بوكا وأبي غريب سابقا ليعودوا الى تأدية نشاط ارهابي وقيادة مجموعات ارهابية قبل أن تعاود الاستخبارات الامريكية اعتقالهم واستجوابهم. كل هذا كان يشكل أدلة قطعية على ان السجون الامريكية كانت مرتعا ومنتدى لقاء وتنظيم وتجنيد للارهاب وبعلم الامريكيين انفسهم.
هذا ما جعل من سنين السجن الذي جمع الارهابيين، برنامجا عمليا تأسيسيا لمرحلة كانت من خلالها امريكا تعمل على بناء هيكلية تنظيم داعش الارهابي كما سيأتي في معرض الكلام.
افادات متقاطعة وتأكيدات:
إفادة المدعو أبو أحمد في الجزء الأول من التحقيق، ليست الوحيدة فمعتقلون سابقون أيضا أفادوا أن سجن بوکا کان مرتعا خصبا لتنظیم القاعدة والجماعات المتطرفة التي تدور في فلکها، ووصفوه بأنه کان "مدرسة تخرج أعدادا کبیرة من التکفیریین والمتطرفین بطریقة منظمة، لقد كانت مدرسة ادارية ولم يكن هنالك اي بطالة او وقت فراغ لان الجميع لديهم معلمين جيدين في السجن وبرامج معدة للتدريب" .
وبالفعل تشير الأسماء المنتشرة والمعطيات، أن تنظيم داعش بدأ بالانتشار في المنطقة تحت اشراف الذين كانوا في السجون الامريكية خلال فترة الاحتلال الامريكي للعراق.
فبالإضافة الى سجن بوكا، كان هناك معسكر كروبر قرب مطار بغداد كما كان هناك سجن ابو غريب في غرب بغداد الذي أُغلق بعد ١٨ شهراً في بداية الحرب.
إفادات السجناء يؤكدها المحلل العسكري الدكتور هشام الهاشمي الذي قال ان الحكومة العراقية تقدر بأن عدد القادة الكبار في داعش هم 17 من اصل ٢٥ يديرون المعارك في العراق وسوريا وخرجوا من السجون الامريكية بين ٢٠٠٤ و ٢٠١١.
وبالفعل فإن أبرز السجناء السابقين في سجن بوكا الى جانب البغدادي، هو أبو محمد الجولاني الذي يترأس قيادة جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة والمحاربة داخل الدولة السورية. فبعد إطلاق سراحه من السجن عام 2008 استأنف الجولاني نشاطه الجهادي، إلى جانب أبي بكر البغدادي.
ولادة الارهاب طفل السجون الامريكية:
استمر العمل في بوكا لمدة ست سنوات، مرحلة كانت كفيلة بوضع هيكل ثابت لتنظيم داعش وتم تدريب عناصره وأمرائه بشكل هادئ داخل السجون.
وحين أصبح المشروع الامريكي الارهابي مكتملا وبدأت علامات الاستفهام تشير الى دور خطير للسجن بعد توالي إفادات من ارهابيين خرجوا من السجن واعيد اعتقالهم من قبل الاستخبارات العراقية كشفوا عما يجري في السجن، الأمر الذي اوصل الوضع الى مواجهة بين الامريكيين والحكومة العراقية حول ما يجري، فانتهت مهمة السجن السري ولم يعد هناك من جدوى من الحفاظ عليه وتم اغلاقه عام ۲۰۰۹.
في تلك الفترة، ظهر من خلال متابعة الاحداث أن نشاط التنظيم الارهابي اتخذ شكلا جديدا متطورا في فنون القتال وتصدير العنف، حيث تزايدت وتيرة العمليات الانتحارية والهجمات الارهابية بشكل كبير جدا، كما أن المجموعات الارهابية المتفرقة قد تم ضمها مع بقايا الرجال الامنيين في النظام العراقي السابق ضمن تشكيل موحد حمل اسم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" والمعروف باسم داعش وبهذا أصبح الهيكل التنظيمي لداعش مكتملا.
ولأن أبا بكر البغدادي ومشروعه المشبوه والجديد المعد من قبل الامريكيين قد أصبح جاهزا للاستثمار، لكن ابو بكر كان مسجونا وباتت الحاجة اليه خارج السجن ملحة لاطلاق المشروع الارهابي المعدل أمريكيا.
في بداية عام 2009، أصبح ابو بكر البغدادي طليقا، فقد أعفي عنه من قبل الأمريكيين بسبب سلوكه الجيد وانضباطه وتم اطلاق سراحه، وبعد فترة وجيزة تم اغلاق السجن ليلتحق زملاء سجن بوكا بزعيمهم البغدادي الذي جندهم ودربهم وربطهم بشخصه خلال سنين السجن.
مرحلة تولي أبي بكر البغدادي:
بعد خروج أبي بكر البغدادي، كان هناك عقبة امام توليه زعامة التنظيم هي وجود ابي عمر البغدادي والمصري على رأس التنظيم وهما يرتبطان بتنظيم القاعدة برئاسة الظواهري ارتباطا وثيقا.
وكان لا بد من ازاحة هذا العائق أمام صاحب المشروع الكبير المنفصل عن القاعدة والذي يعتمد عليه الامريكيون لاطلاق مشروعهم ثمرة جهود سنين من العمل والتدريب والتوجيه داخل السجن.
حينها انطلقت عملية اغتيال ابي عمر البغدادي وابي ايوب المصري عبر عملية أمنية مشبوهة وردت فيها روايتان.
الأولى رواية القوات العراقية، التي صرحت أن عملية قتل القياديين الارهابيين تمت بعد معلومات مسبقة أدلى بها المقرب من البغدادي المدعو مناف عبد الرحيم الراوي بعد تشخيصه من الامريكيين واعتقاله من قبل الاستخبارات العراقية، مما أوصل الى تحديد اماكن اجتماع القياديين والتنصت عليهم باستخدام باقة زهور زرع فيها جهاز تنصت، وتم ارسالها الى منزل يترددان إليه خلال الاجتماعات السرية وتم الإطباق عليهم حيث قام الامريكيون بمداهمة المكان بعد أن تم التأكد بأنهما حاضران في البيت فقاما بتفجير نفسيهما تجنبا للوقوع في الأسر وماتا على الفور.
رواية أخرى صرح بها تنظيم داعش الذي نفى العملية الأمنية وقال إن مقتل القادة جاء عبر اشتباك مع دورية للشرطة العراقية مرت عن طريق الصدفة من كان الاجتماع، وأدت الاشتباكات الى تدخل الطائرات الامريكية التي قصفت المكان وقتلتهم.
بين الروايتين، يظهر أن الأولى الأكثر صحة، لأن الثانية يشوبها بعض التشكيك فهل يعقل أن يتم الاشتباك مع دورية للقوات العراقية تمر صدفة في منطقة مخصصة لاجتماع سري بحجم الارهابيين البغدادي والمصري ويقع الاشتباك معها في منطقة قريبة من مكان الاجتماع مما ادى الى كشفه وقصفه ؟؟ أم ان داعش يخفي عملية أمنية فعلا تم فيها اختراقه أدت الى مقتل القياديين ؟؟
أيا كانت الأجوبة، قتل البغدادي ومعاونه المصري عام 2010، بعد أقل من عام على خروج ابي بكر البغدادي من سجن بوكا، وقد كان ابو بكر حينها على مسافة قريبة جدا من أبي عمر البغدادي والمصري وكان يشرف على جميع مراسلاتهم مع ايمن الظواهري ويكتبها بنفسه ويلازمهما في اجتماعاتهم السرية دائما ومن الاشخاص المحدودين الذين يعرفون عن تحركات ابي عمر والمصري.
وبالتالي فإن العملية الأمنية التي تم فيها تشخيص واعتقال "مناف عبد الرحيم الراوي" من قبل الاستخبارات الامريكية والعراقية، يطرح اسئلة منطقية حول الجهة المقربة من القياديين المتخفيين والتي سمحت بهذا الاختراق الذي وصل الى التنصت عليهما في منزل محاط بالسرية العالية وتنحصر المعرفة به بأشخاص قليلين جدا جدا.
فهل يكون أبو بكر البغدادي نفسه المتخرج من سجن بوكا الامريكي، هو الذي قام بأداء دور تشخيص مناف عبد الرحيم الراوي وبالتالي مما سمح باعتقاله وتحديد مكان ابي عمر والمصري، وبالتالي استهدافهم في المنزل الذي لم يكن ابو بكر نفسه موجودا فيه يومها رغم ملازمته الدائمة لهما ؟؟
على كلٍ، فرضيات واردة ليست مستبعدة أبدا تتخذ من العلاقة الحميمة بين البغدادي والامريكيين في السجن مستندا واقعيا لتُطرح على سبيل الفرض.
ومهما كان الجواب ايضا، فإن غياب القياديين الارهابيين عن الساحة، مهد لتولي أبي بكر البغدادي منصب رئاسة التنظيم واطلاقه لاحقا مشروع الخلافة في العراق والشام واعلانه الانفصال عن القاعدة بعد خلافات كبيرة بينه وبين ايمن الظواهري حول المشروع ؟؟
تغييرات دراماتيكية بعد وصول البغدادي الى سدة الامارة:
إن خروج البغدادي من السجن ومقتل قيادة التنظيم بعد اقل من سنة وحلول البغدادي زعيما للتنظيم بشكل مفاجئ حتى لمن كان معه في السجن، وما جرى بعدها من مراحل دامية وانغماس في القتال السوري وهجمات واسعة في العراق، وتغير كلي في وجهة القتال باتجاه الروافض "الشيعة" والكفار الصليبيين وفق مصطلحاتهم، حيث اعتبرت اولوية القتال عند داعش للروافض حلفاء المشروع الايراني قبل الامريكيين والاسرائيليين وامراء الشرك العرب فضلا عن دخول الاعلام كعنصر اساسي جدا في حملات التنظيم الارهابية وبروز تحول كبير وضخم جدا في آلية المواكبة الاعلامية للتنظيم بأسلوب هوليوودي واخراج فائق الجودة ومواكبة متطورة جدا تحمل اهدافا متشعبة.
كل هذا يشير الى برنامج معد مسبقاً من البغدادي نفسه والاستخبارات الامريكية التي واكبت ودربت ومهدت للمشروع او على الأقل يمكن تثبيت ادانتها عبر سكوتها وقبولها ومشاركتها غير المباشرة بذلك، وهذا ما حقق لها اهدافا عجزت امريكا نفسها بقواتها العسكرية والامنية ودبلوماسيتها عن تحقيقه.
فها هو الارهاب المنظم وولادته بأيد وتحت أعين دولة تترأس الارهاب العالمي، وتدعي اليوم محاربته لتغطي عن خفايا اعمالها الامنية التي تنفذ فيها اجندتها ومشاريعها بوكالة للإرهاب المتبني المخلص لمشروع القضاء على بذور المقاومة عبر فتنة مذهبية كفيلة بحفظ سلامة الکيان الاسرائيلي والمصالح الامريكية في المنطقة.
مؤخرا تناقلت الأنباء خبر اصابة البغدادي اصابة خطيرة ادت الى شلله في عملية قصف جوي ليست الاولى من نوعها والتي تقوم بها ما تسمى بقوات التحالف الدولي لمواجهة تنظيم داعش وتستهدف البغدادي.
دلالات الاستهداف، تشير الى أن البغدادي نفسه قد أصبح في مرحلة نفوذ خطر، يخرجه من تحت سيطرة الامريكيين والمشغلين من الذين ينفقون المال والسلاح على التنظيم ويشترون منه انتاج النفط من الابار التي يسيطر عليها.
وبالتالي المطلوب انهاء هذه الورقة التي ادت مهمتها الوظيفية قبل أن تكبر وتصبح عبئاً عليهم، عبر تصفية البغدادي وما يحمله من أسرار وأدلة وتاريخ كبير في صناعة الارهاب الممنهجة، واستثمار قتله لاضافة أدلة كاذبة حول قتال امريكا والتحالف ضد داعش، واحلال المنصب لأحد الامراء الحاليين المعدين ضمن برنامج معد لداعش وفق مراحل متدرجة، وبالتالي وصول احد الطامحين الصغار الذين يحتاجون الى رعاية ولطف استخبارات امريكا والدول العربية لتصدر المشهد البطولي وترأس التنظيم الأكثر شهرة في العالم اليوم.