الوقت- ثمانٌ وتسعون عاماً مرّت على معركة ميسلون الخالدة في أذهان السوريين، يوم وطئت قدمي الجنرال الفرنسي غورو أرض دمشق، توجّه بعدها إلى قبر محرر القدس صلاح الدين الأيوبي وخاطب قبره (ها قد عدنا يا صلاح الدين) في واحدة من أشهر زلّات لسان قائد غربي، وربما لا يوازيها إلّا زلّةُ لسان الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش الذي وصف حربه ضد العراق بأنّها حرب صليبية.
اليوم وبعد ثمانٍ وتسعين عاماً يعود الرئيس الفرنسي ماكرون مستذكراً بداية ذلك الاحتلال ومُستذكراً مقولة أسلافه بأنّهم عادوا، آملاً هو الآخر بالعودة إلى أرض سوريا، غير أنّ سوريا اليوم لا تشبه سوريا الأمس بعد أن خرجت من عباءة العثمانيين ضعيفةً هزيلة، وفرنسا اليوم أيضاً لا تشبه فرنسا التي خرجت منتصرة في الحرب العالمية الأولى بعد أن تقاسمت إرث الإمبراطورية العثمانية.
واليوم تمرُّ الذكرى الثانية والسبعين على خروج قوات الاحتلال الفرنسي من سوريا بعد أن عاثت فساداً في البلاد لأكثر من ست وعشرين عاماً، تعود ذكرى جلاء المحتل الفرنسي ولا تزال سوريا باقيةً في أذهانهم يُحاولون العودة إليها بكل السبل، حتى لو كان العدوان العسكري وقتل السوريين وترويعهم هو السبيل إلى ذلك.
فرنسا التي طالما اعتبرت سوريا ولبنان محميّاتٍ لها، أو مُستعمرات، حاولت طوال السنوات السبع الفائتة وبمشاركة عدد من الدول الإقليمية وأدواتهم على الأرض السورية أن تُعيد سوريا إلى حِجرها، غير أنّ كلمة السوريين كانت هي العليا، ففرنسا التي تريد العودة إلى المنطقة بأي وسيلة ممكنة علمت أنّها غير قادرةٍ على ذلك، فاستعانت بالأمريكيين لتنفيذ هذه الغاية، غير أنّهم هم أنفسهم باتوا اليوم يتحدثون عن رغبتهم بمغادرة سوريا وتسليم مواقعهم إلى قواتٍ عربية حسب ما سرّبت صحيفة وول ستريت جورنال، وقبلها بأيام تحدثت تقارير إعلامية أيضاً أن واشنطن أعلمت باريس بأنها تُريد مغادرة سوريا وتسليم قيادة الملف السوري لها، حيث إنّها وحسب تلك التقارير غير قادرة على البقاء هناك، حيث أفصح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن رغبته بمغادرة سوريا.
وقبل العدوان الثلاثي الأخير أكدت الخارجية الفرنسية أنّ القوات الجوّية الفرنسية حلّقت أكثر من مرّة في الأجواء السورية لإجراء طلعات جوية استطلاعية ترمي في المقام الأول إلى جمع المعلومات الاستخباراتية، وذلك بهدف ممارسة "حق" فرنسا في الدفاع عن النفس، كما هو منصوص عليه في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، حسب الخارجية الفرنسية، الأمر الذي يفضح الدور الفرنسي في سوريا، وهدف فرنسا من جمع تلك المعلومات الاستخبارية، ولمن قُدمت تلك المعلومات؟.
سوريا التي أصبحت ساحة حرب دوليّة، بات الجميع يُريد إثبات نفسه وقوته فيها، فكما أردوغان أراد أن تكون سوريا بوابةً لعودة الإمبراطورية العثمانية، كذلك أرادت فرنسا عبر رئيسيها الحالي والسابق، متخذةً في سبيل ذلك كل السبل الممكنة الدبلوماسية منها وتحريك العملاء، وبعد أن فشلت كل تلك الخطوات عملت على التدخل العسكري، حيث إنها لم تُطق أن ترى نفسها تخرج من سوريا بعد سبع سنوات من الحرب خالية الوفاض.
إذ لم يتبقَ أمام الفرنسيين والدول الداعمة للإرهاب سوى مدينة إدلب في الشمال الغربي، لذلك بدأت باريس تُصدر إشارات تتضمن تهديداً مُبطناً للحكومة السورية من مغبّة الدخول إلى إدلب وتحريرها، غير أنّ الجيش السوري وبعد انتهائه من تطهير طوق العاصمة دمشق، لن يبقى أمامه إلّا تحرير إدلب من الجماعات الإرهابية المنتشرة هناك، وإعادة الأمن والأمان إلى المحافظة التي ترزح تحت نير الإرهاب منذ سنوات، مؤكداً في الوقت ذاته أنّ التهديدات الفرنسية ما هي إلا كلامٌ أجوب لا يحمل أيّ معنى، وأنّ تحرير سوريا كلها بات قاب قوسين أو أدنى.
احتفال السوريين هذا العام بعيد الجلاء له وكما يقولون طعمٌ مُختلف، احتفالهم اليوم أيضاً بخروج عملاء فرنسا من آخر معاقلهم في الغوطة الشرقية لدمشق والتي مثّلت طوال عقود المكان الذي كانت تنطلق منه الثورة والعصيان ضدّ الفرنسيين، واليوم يخرج عملاء الفرنسيين منها يجرّون ذيول الخيبة خلفهم.
اليوم وفي ذكرى الجلاء احتشد مئات الآلاف من السوريين في ساحة الأمويين بدمشق، احتفاءً بالعيد الـ 72 لجلاء المستعمر الفرنسي عن سورية وانتصارات الجيش العربي السوري على الإرهاب والتصدي، والأهم من ذلك احتفاءً بكسر شوكة فرنسا التي شاركت منذ أيام بالعدوان الثلاثي برفقة الولايات المتحدة وبريطانيا، إذ لا يزال مشهد خروج الجنود الفرنسيين مهزومين أمام السوريين يُشكّلُ عقدةً لأيّ قائدٍ فرنسي يصل إلى قصر الإليزيه.