الوقت- التخبط بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ هو الحالة التي يعيشها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فكل قرارٍ يتّخذه، لا شكّ أنّه سيُعيد النظر بشأنه أو ربما إلغاؤه، بعد أن يكتشف أنّ ما أصدره كان قراراً عشوائياً، وأبرز الأمثلة على هذا هو اتفاق التجارة عبر المحيط الهادئ أو ما يُعرف بالـ "TPP" وهو اتفاق تجاري بين 12 دولة تمتلك 40٪ من الاقتصاد العالمي، فبعد أنّ كان شعار ترامب الانتخابي هو الخروج من هذه الاتفاقية لما تُسببه من ضررٍ لأمريكا - حسب رأيه - عاد اليوم وأصدر قراراً مُغايراً يطلب فيه إعادة دراسة القرار الأول وتقييمه، وذلك لما خلّفه من ضررٍ على الاقتصاد الأمريكي.
حرب اقتصادية
ما إن أصدر ترامب قراره بفرض الرسوم الجمركية على السلع الصينية، حتى أخذت الصين قراراً بالتعامل بالمثل مع البضائع الأمريكية، الأمر الذي عاد وسيعود على الاقتصاد الأمريكي بالويلات، فلم يكن أمام ترامب وفريقه الاقتصادي إلّا التفكير بالعودة إلى اتفاق التجارة عبر المحيط الهادئ، وذلك لمواجهة النفوذ والقوة الاقتصادية للصين.
وأكدت تقارير إعلاميّة أنّ الإجراءات الأمريكية الأخيرة التي بذلها ترامب لفرض تعريفات جمركية كبيرة على واردات السلع الصينية، كانت بمثابة إعلان حرب اقتصادية مع الصين، الأمر الذي أثار مخاوف جمّة في الولايات المتحدة، حيث أكّد سياسيّون من الحزبين الديمقراطي والجمهوري على أنّه وبدلاً من خوض حرب اقتصادية مع الصين؛ من الأفضل تشجيع الاقتصاد مع الدول الموقعة على اتفاق التجارة عبر المحيط الهادئ.
ويرى مراقبون أنّ تحالف الدول المنافسة للصين اقتصادياً مثل اليابان، أستراليا، كندا، ماليزيا والمكسيك في اتفاق التجارة عبر المحيط الهادئ، من شأنه عزل الاقتصاد الصيني، وهو الأمر الذي أجبر وكما يقول المراقبون ترامب على إعادة التفكير بالعودة إلى اتفاق التجارة عبر المحيط الهادئ.
ترامب بين نارين
وبعيداً عن الحرب الاقتصادية مع الصين؛ يواجه ترامب معارضةً داخلية للعودة إلى اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ، وتتمثل هذه المُعارضة في العمال الذين أيّدوا ترامب خلال حملته الانتخابيّة، حيث أدى حديث ترامب المعارض للتجارة الحرة مع تعهداته بوقف تدفق السلع المستوردة من الصين والمكسيك إلى تأييد ضخم له بين العمال في الولايات التي تُمثل القلب الصناعي للولايات المتحدة وهي أوهايو وميشيغان وويسكونسن وبنسلفانيا ما جعل الانتخابات تميل لمصلحته، وفي رده على موقف ترامب الجديد، قال رئيس النقابة المركزية الأمريكية "اي اف ال - سي آي او" ريتشارد ترومكا: "إنه تم إعلان وفاة اتفاق الشراكة لأنه كان فاشلاً بالنسبة للعمال الأمريكيين ولا يجب إنعاشه، ما من وسيلة لنفخ الحياة فيه من دون خيانة الشعب العامل".
أحد منظمي "بابليك سيتيزن" الأمريكية غير الحكومية رأى أنّ عودة ترامب عن قراره ستجعله "ليس جديراً بالثقة"، منوّهاً بالدور المركزي لمعارضة اتفاق الشراكة عبر "الهادئ" في انتخاب ترامب، حيث سوَّق وعلى نطاق واسع لفكرة الانسحاب من هذا الاتفاق، الأمر الذي دفع العمال لانتخاب ترامب وترجيح كفته على هيلاري كلينتون.
لكن وعلى المقلب الآخر رحب المشرعون الأمريكيون من ممثلي الولايات الزراعية بموقف ترامب الجديد، إذ تُمثل خطوة ترامب الجديدة إمكانية تدفق الإنتاج الزراعي إلى الدول الإحدى عشر الموقعة على اتفاقية التجارة عبر المحيط الهادئ.
وبالإضافة إلى ما سبق، عبّر مستشارو ترامب التجاريين وهم من صقور إدارته، ويهيمنون الآن على قراراته، عن تفضيلهم التفاوض على اتفاقات ثنائية من شأنها مراعاة مصالح الولايات المتحدة بصورة أفضل، حسب وصفهم.
دول الاتفاق
بعد خروج ترامب من الاتفاق مع وصوله إلى سُدّة الحكم في العام 2016، انفرط عقد المنظمة، لكن وفي بداية آذار/ مارس الماضي أعادت الدول الإحدى عشر تجميع نفسها ووقعت اتفاق إنعاش التجارة الحرة بينها والذي بات يسمى "الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ"، حيث وقع وزراء الخارجية أو التجارة في أستراليا وبروناي وكندا وتشيلي واليابان وماليزيا والمكسيك ونيوزيلندا والبيرو وسنغافورة وفيتنام الاتفاق الذي أعادوا من خلاله التجارة فيما بينهم.
وبعد تصريحات ترامب الأخيرة؛ أعلنت الحكومة اليابانية على لسان الناطق الحكومي يوشيهيدي سوغا أن إعادة التفاوض حول اتفاق الشراكة "غاية في الصعوبة"، مُشيراً إلى أنّ هذا اتفاق يشبه منحوتة من الزجاج، وسيكون في غاية الصعوبة إعادة التفاوض حول بعض الأجزاء، لكنه أردف: "يسرنا أن نرحب بمبادرة الرئيس الأمريكي إن كانت تعني أنه يعترف بنطاق وأهمية الاتفاقية"، مُطالباً بمزيد من التوضيح حول النوايا الأمريكية.
وفي الختام؛ يبدو أنّ ترامب سيعود إلى الاتفاقية مع الدول المُطلّة على المُحيط الهادئ، لما تُشكّله هذه الدول من قوّة اقتصادية كبيرة من شأنّها أن تُساعد واشنطن في الوقوف بوجه المارد الصيني الذي يحاول الهيمنة على الاقتصاد والتجارة الدوليتين.