الوقت- منذ توليه منصب رئيس الجمهورية الفرنسية في 7 مايو 2017، حاول إيمانويل ماكرون بدمائه الشابة أن يعيد مكانة بلاده إلى سابق عهدها وضخ الروح الفرنسية من جديد في المجتمع الدولي والسير نحو اقتصاد مشرق كان قد وعد فيه ماكرون خلال حملته الانتخابية.
الرئيس الشاب الفرنسي قد يكون لديه فكر منفتح وطامح لاستعادة مكانة فرنسا السابقة في العالم، لكن للأسف العالم تغير منذ العهد الذي كانت فيه فرنسا تمتلك قرارا مستقلا ودورا مؤثرا على صعيد السياسية الخارجية، ويبقى السؤال هل يستطيع ماكرون إعادة مكانة بلاده على مستوى السياسة الخارجية وفي نفس الوقت دفع عجلة الاقتصاد داخل البلاد كما وعد سابقا؟!
في الشق الثاني من السؤال لم يستطع ماكرون حتى اللحظة تحقيق تقدم إيجابي بل على العكس تراجعت عجلة الاقتصاد الفرنسي وكأنها تمشي في طريق وعرة نحو سفح جبل "شامونيكس" الفرنسي الشهير، والدليل التقارير التي انتشرت الأسبوع الماضي عن انخفاض شعبية ماكرون لأقل من 44 في المئة لأدنى مستوى لها منذ أكتوبر/تشرين الأول، من العام الماضي، ويطلق حاليا على ماكرون لقب "رئيس الأغنياء" نظرا لإحداث تغييرات على قانون العمل الذي يهدد شريحة واسعة من الشباب الفرنسي بالبطالة التي وعد ماكرون بتخفيضها إلى 7.0 % في نهاية العام 2022 ولكن لم تظهر أي بوادر حكومية في هذا الشأن حتى اللحظة.
وبما أننا لا نريد الخوض في الوضع الاقتصادي الداخلي لفرنسا دعونا نبحث في الشق الأول من السؤال الذي طرحناه في الأعلى حول السياسة الخارجية الجديدة لفرنسا:
أولاً: لا شك بأن ماكرون يسعى لإيجاد هوية جديدة لفرنسا، لكن الهوية الجديدة وسياسة الوصول إليها "خاصة في الشرق الأوسط" نراها تنطلق من المثل الشعبي "ضربة على الحافر وضربة على المسمار"، وكأن فرنسا تمسك العصا من الوسط في سياستها لتراجع دورها إلى حد كبير خلال العقود القليلة الماضية، واليوم تعاني فرنسا من نتائج هذه السياسة والأمر زاد الطين بلة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لما حمله هذا الخروج من ضغوط على فرنسا، خاصة من النواحي الأمنية والعسكرية، حيث تم تخفيض القدرة العسكرية للاتحاد الأوروبي بنسبة 25٪ إلى 30٪ مع خروج بريطانيا الأمر الذي يثير قلق فرنسا حاليا.
ومن الواضح ان فرنسا عاجزة من دون بريطانيا عن تأمين القدرة اللازمة للقيام بدور مركزي في تأمين الأمن للاتحاد الأوروبي، وبالتالي يجب أن تبقى فرنسا تحت تصرف حرس الأمن البريطاني والأمريكي، وهذا يعني إلى حد كبير ابتعادها عن اتخاذ قرار مستقل في قضايا جوهرية، وقد ظهر ذلك من خلال الخلافات التي شهدناها في مؤتمر ميونيخ بين فرنسا وألمانيا وبريطانيا حول موضوع تأمين أوروبا، ما أظهر فرنسا أضعف من أي وقت سابق.
ولم تكن فرنسا تريد إرسال قوات إلى دول البلطيق ولكنها فعلت ذلك بالإكراه ردا على المساعدات العسكرية البريطانية والأمريكية للعمليات العسكرية الفرنسية في شمال ووسط إفريقيا. حتى ان فرنسا تريد تطبيع العلاقات مع روسيا، لكن الولايات المتحدة وبريطانيا لا تعارضان ذلك فحسب، بل إن بريطانيا تُحرك اوروبا لإقامة مواجهة عسكرية مع روسيا.
ثانياً: فرنسا والشرق الأوسط؛ وفي كلمته خلال المنتدى الاقتصاديّ العالميّ في مدينة دافوس السويسريّة شدّد الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون بوضوح على عزمه بأن تستعيد فرنسا موقعها بين الدّول العظمى، وتعيد تأكيد نفسها كشريك استراتيجيّ متعدّد الأقطاب، مجسداً ذلك في ثلاث كلمات: "فرنسا قد عادت"، ولكن كيف عادت فرنسا ومن أي بوابة وهل عادت إلى الوراء في سياستها ام عادت كسابق عهدها؟!
بوابتها الاولى للدخول بدأت من خلال استغلال الأزمة السورية التي ما زالت الشغل الشاغل لسياسات الدول الخارجية التي تسعى للحصول على حصة من "الكعكة السورية" ولكن لا نعتقد أن فرنسا بإمكانها الحصول على ذلك، حتى ولو لوحت بتوجيه ضربة عسكرية لسوريا في حال استخدمت الحكومة السورية السلاح الكيميائي في ادلب، حيث لا يمكن لفرنسا في وضعها الحالي أن تقوم بعملية عسكرية منفردة ضد سوريا أو غيرها من الدول، ونعتقد بأن ما قاله ماكرون في هذا الخصوص لا يتعدى موضوع استغلال الأزمة السورية لزيادة شعبيته التي تتراجع يوما بعد يوم.
أمر آخر يمنع فرنسا من الاقتراب من سوريا هو الوجود الروسي الذي لن يسمح لها بالتحرك بحرية هناك، خاصةً أن الدور الروسي يتعاظم يوما بعد يوم في الشرق الأوسط، لدرجة أن دولا أكبر من فرنسا لا يمكنها اللعب هناك دون الأخذ بعين الاعتبار الموقف الروسي، وبالتالي العودة للسياسة الفرنسية القديمة عن طريق إظهار فرنسا على أنها لاعب مستقل وقوي في الظروف الحالية لجذب الحلفاء من جديد أمر قد ينجح لكن العراقيل في وجهه أكثر بكثير مما يطمح إليه ماكرون، ونخشى ما نخشاه أن يكون ماكرون يعمل على إعماء شعبه عن الداخل من خلال إبراز جعجعة سياسية في الخارج عبر إيجاد ثغرات في بعض الدول التي تعاني أزمات للصعود على أكتافها.