الوقت- اختلطت الأوراق الأمريكية على الساحة العراقيّة كثيراً. فقد شكّلت مرحلة العدّ العكسي للقضاء على تنظيم داعش الإرهابي هاجساً حقيقياً للإدارة الأمريكية التي سارعت لإنشاء "بروباغندا" البقاء في العراق في مرحلة ما بعد داعش.
الجميع شارك في بروباغندا "البقاء" بدءاً من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي انتقد خلال لقائه رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي قبل أشهر في واشنطن انسحاب الجيش الأمريكي، ليمرّ عبر العديد من القيادات العسكرية والدبلوماسيّة، وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس، المتحدث باسم وزارة الدفاع لشؤون القيادة الوسطى الأمريكية إيريك ياهون، وزير الخارجية ريكس تيلرسون ونائبه جون سوليفان، ولا ينتهي الأمر عند ثعلب الدبلوماسيّة الأمريكية السياسي المخضرم هنري كسينجر الذي بحث معه ترامب قبل أيام قضايا الشرق الأوسط، وبول بريمر الحاكم الأمريكي خلال فترة الاحتلال الذي ادعى أنّ البقاء العسكري في العراق لصالح الطرفين.
كسينجر كان الأكثر وضوحاً بين المسؤولين الأمريكيين، ولعل برستيجه الحالي لا يفرض على التقيّد كثيراُ بالأعراف الدبلوماسيّة، فقد قال ثعلب السياسة الامريكية "ان خلاصة سياستنا الحالية في العراق، أن يبقى لسنوات طويلة قادمة تحت سيطرتنا الكاملة (مباشرة وغير مباشرة) سياسيا وعسكريا، العامل المهم الذي نجحنا بتأسيسه ونعمل على ابقائه، اننا جعلنا الدولة العراقية منقسمة طائفيا وقوميا، بحيث لا يمكنها ان تكون دولة مركزية قوية، وهي عرضة سهلة لتفجيرها والتحكم بها".
كلام كسينجر ليس بجديد، بل كُتب في قبل أشهر على صفحات"وول ستريت جورنال" الأمريكية، بقلم جيمس جيفري، الباحث المخضرم والعارف بتفاصيل السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط عموماً، والعراق على وجه الخصوص كونه كان سفيراً في بغداد بين عامي 2010 و2012 وهي المرحلة التي شهدت الانسحاب الأمريكي من البلاد. فقد لخّص الكاتب الأمريكي المخضرم في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى الاستراتيجية الأمريكية التي يجب اتباعها في العراق، مطالباً بالمسارعة في الحصول على ضمانة لبقاء جزء من القوّات الأمريكية في العراق، واستغلال "حجّة"داعش لتبرير الوجود الأمريكي على المدى الطويل حفاظاً على استراتيجية المواجهة مع إيران".
أدركت واشنطن أن ذريعة داعش باتت بالية عراقياً، ولن تنطلي على أحد، فضلاً عن خطورة الخيار العسكري مع الحشد الشعبي، لاسيّما بعد احتراق الورقة الكرديّة، وبالتالي برزت قناعة واضحة لدى الإدارة الأمريكية بضرورة التعامل بواقعية مع الواقع العراقي الجديد وقوّته الاستراتيجية المتمثّلة بالحشد. سارعت الإدارة الأمريكية للانتقال إلى سياسة الترغيب بعد فشلها في الترهيب، و"الاحتواء" بدل المواجهة، وهذا ما ظهر بوضوح في تقارير مراكز الدراسات الامريكية، معهد ستراتفور، معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى ومعهد بروكنجز.
المعهد الأمريكي نفسه (معهد واشنطن) حاول تدوير زوايا الضعف في استراتيجية جيمس جيفري تحت شعار"تعزيز قوات الأمن العراقية" في مقال مشترك للكاتبين الأمريكي مايكل نايتس المتخصص في الشؤون العسكرية والأمنية للعراق وإيران والدول الخليجية، والعراقي إسماعيل السوداني العميد الركن الذي شغل منصب الملحق العسكري في الولايات المتحدة في الفترة بين 2007 و 2009.
ما ظهر قبل فترة على صفحة المعهد الأمريكي، ردّده وزير الدفاع جيمس ماتيس مؤخراً بحذافيره، داعياً إلى دعم القوات المسلّحة العراقيّة، وفي مقدّمتها الشرطة العراقيّة. ربما ترى إدارة ترامب في سياسة الترغيب الأخيرة نوعاً من الذكاء، إلا أنّه ذكاء مكشوف لن ينطلي على الشعب العراقي الذي شاهد حقيقة الجيش المدرّب أمريكياً لسنوات، وكيف سقط بساعات أمام تنظيم داعش الإرهابي منذ حوالي ثلاثة أعوام، وكلّف الشعب العراقي آلاف الشهداء وعشرات المليارات بعد أن كلّفه التدريب الأمريكي مليارات إضافيّة أثقلت كاهل المواطن العراقي، فكيف سيكون الحال اذا كانت الجهة المدرّبة (بفتح الراء) هي الشرطة بدل الجيش!
لا نعتقد أنّ واشنطن ستكتفي بمسوّغ الدعم، بل ستستخدم كافّة أوراقها السياسية والعسكرية، ومن ضمنها محاولة حلّ الحشد الشعبي داخل القوات المسلّحة العراقيّة بصورة معقّدة تفتّت هذه القوّة الاستراتيجية. بعدها، وفي حال فشلت أمريكا في الحصول على ما تصبوا إليه من الانتخابات النيابيّة ستنتقل إلى خيار الترهيب مجدّدا،ً وهو السيناريو الأكثر ترجيحاً، إلا أنّه من المستبعد أن يرتقي لمستوى الصدام العسكري المباشر نظراً للتبعات الكارثيّة على أمريكا في العراق.
لا شكّ أن البقاء الأمريكي في العراق يشكّل تحدّيا بارزاً لكافّة الذين رفضوا الاحتلال الأمريكي وعملوا على إخراجه، وفي مقدّمتهم فصائل المقاومة العراقيّة وكافّة الاحزاب الداعمة لها، وبالتالي في حال فشلت مراكز صنع القرار الأمريكية في إيجاد المسوغّات لتبرير تواجدها العسكري، سيُرفع الصوت مجدداً بوجه هؤلاء لنكون أمام سيناريو مشابه لرفع الصوت الإسرائيلي بالأمس بعد حادثة إسقاط الطائرة، ونزول القيادة العسكرية الإسرائيلية بسرعة تفوق سرعة الصاروخ الذي استهدف الـF16 عن الشجر عبر الدعوة للتهدئة نظراً للتبعات الكارثيّة.
من يراقب التصريحات الأمريكية بعد تكريس الحشد الشعبي كقوّة استراتيجية في المعادلة العراقيّة، يدرك جيّداً حجم النقلة النوعيّة في المشهد العراقي، وهو ما دفع بمعهد بروكنجز لتقديم توصيات بـ"احتواء الميليشيات بدل إزالتها" كونه "لا يمكن هزيمة الميليشيات الشيعية في العراق عسكرياً"، فماذا لو أفشلت القوات العراقيّة سياسة الاحتواء الأمريكية كما أفشلت سياسة المواجهة؟ وماذا لوّ نفّذت فصائل المقاومة العراقيّة تهديداتها باستهداف القوّات الأمريكية؟
هناك مراهنة أمريكية واضحة على نتائج الانتخابات النيابيّة العراقيّة التي سترسم، ليس مستقبل العراق فحسب، بل مستقبل المنطقة بأسرها، بغية إيجاد مبرّر سياسي للبقاء، فهل سيدقّ الشعب العراقي المسمار السياسي في نعش مشروع البقاء الأمريكي، كما فعل الحشد الشعبي عسكريّاً؟