الوقت- تجمع شبه جزيرة القرم ثلاث عرقيات أساسية تشكل محور الصراع السياسي فيها حيث يشكل الروس ما يقارب 58 بالمئة والتتار 12.10 بالمئة في تحالف سياسي يميل للعودة إلى الحضن الروسي ويقابله 24% من العرق الأوكراني فقط، ما يدل على حجم الأزمة الأوكرانية في الحفاظ على هذه المنطقة ذات الأكثرية المطالبة بالرعاية الروسية، وعلى الرغم من أهمية التوزع العرقي في الأزمة القائمة حاليا إلا أن الصراع أكبر وأعقد من ذالك بكثير إذ يدخل فيها أهمية شبه الجزيرة من الناحية الجغرافية والإقتصادية لكل من أوكرانيا وروسيا والدول الأوروبية.
كما ويتواجد أقليات عرقية أخرى إلا أنها ذات تأثير سياسي أقل كون التتار يميلون بشكل كامل للطرف الروسي إذ يعتبرون أن لروسيا الفضل الأساسي في وجودهم في الإقليم بعد أن حاولت أوکرانیا إخراجهم منه فما كان من روسيا إلا أن منعت ذالك، وثقافيا وبالرغم من اعتماد اللغة الأوكرانية كلغة رسمية وحيدة في أوكرانيا إلا أن حوالي السبعين بالمئة من سكان القرم يعتبرون اللغة الروسية هي اللغة الأم ويعتمدونها في إداراتهم وتعليمهم، ويتفاقم الصراع الثقافي والإجتماعي حتى إلى اختلاف في نوع الهوية التي يفضلها السكان فهناك ما يزيد عن ثلاثين بالمئة يدعون امتلاكهم للهوية السوفيتية القديمة فيما يبقى أغلبية السكان يفضلون الهوية الأوكرانية حسب مركز رازوموكوف الأوكراني، والذي بالطبع قد يقدم احصاءات غير بريئة بالكامل
وجغرافيا تقع شبه الجزيرة في مكان جغرافي ذات أهمية استرتيجية كبيرة في شمال البحر الأسود، يجعلها لاعبا أساسيا في الإقتصاد الأوكراني والروسي، من ناحية ربط كل من الدولتين بدول البحر الأسود وباقي دول الإتحاد الأوروبي، كما وتمرير خطوط النفط والغاز، خاصة خطوط الغاز الروسية التي تعد جزءا أساسيا من الإقتصاد الروسي وتعود بأرباح ضخمة للخزينة الروسية، علاوة على ذالك يعتبر الغاز الروسي مصدرا أساسيا للطاقة لا يمكن الإستغناء عنه في دول غرب أوروبا الصناعية، الأمر الذي يبرر حجم الإستعداد الروسي للتضحية في السياسة الدولية وتحمل الحصار والضغوط الإقتصادية الدولية مقابل عدم خسارة سيطرتها على القرار داخل القرم.
وفي الوقت ذاته يبرر هذا الأمر أيضا سبب ضعف الموقف الأوروبي المرهون اقتصاديا للغاز الروسي، والذي يحاول مع حليفه الأميركي فرض المزيد من العقوبات الإقتصادية على روسيا لمنع تمدد سطوتها في دول الإتحاد السوفياتي السابق بشكل عام وأكرانيا بشكل خاص. في محاولة أوروبية لموازنة مصالحها الإقتصادية المربوطة بروسيا مع سعيها لإبقاء أوكرانيا في حاضنة سياسة الإتحاد الأوروبي، إضافة إلى دعم حكومة كييف العاجزة أمام الهجوم الروسي المستميت للحفاظ على مصالحه وسطوته على شبه جزيرة القرم.
أما الأزمة الأخيرة للقرم والتي شهدت صراعا دوليا يتفاقم يوميا، كانت التغيرات السياسية داخل أوكرانيا لصالح الطرف المقرب لروسيا في عام 2014، السبب الرئيسي فيها، والذي بطبيعة الحال ليس وليدة لحظته بل منطلقا من هذا الإرث الطويل للصراع السياسي، و الإجتماعي والإقتصادي منذ للحرب الباردة وحتى اليوم. حيث يبحث الروس لإستعادة ما خسروه بعد تفكك الإتحاد السفياتي في القرن الثامن عشر ولو بالقوة الإقتصادية أو السلطة السياسة .
فأكرانياً كان الصراع الداخلي يتدحرج شيئا فشيئا من تظاهرات مدعومة أوروبيا، بحجة طلب الإنضمام للإتحاد الأوروبي، ضد الرئيس الجديد المقرب لروسيا فيكتور يانوكوفيتش، والتي على أثرها تم عزله من قبل المجلس النيابي وإلغاء الإعتراف بأي لغة غير الأوكرانية ومنها الروسية، ما أدى لردة فعل غاضبة في وسط وجنوب البلاد معتبرة التظاهرات السابقة كانت عملا فئوي أطاحت برئيس منتخب، وبالطبع لم يقف الطرف الروسي المتضرر سياسيا ليتفرج على خسارته في الداخل الأوكراني والتي تعرض مصالحه الإقتصادية خاصة في شبه جزيرة القرم لخطر كبير، فما كان منه إلا أن حارب الأوروبي من ذات الجحر الذي حورب منه أوروبيا وأميركيا في الدول المنفصلة عن الإتحاد السوفياتي السابق، وهو لعبة التصويت الشعبي، مستغلا بذالك الغليان الناتج عن الأزمة الداخلية الأوكرانية، وبتحريض واضح منه أجري إستفتاء شعبي في شبه جزيرة القرم نتج عنه تصويت بنسبة خمس وتسعون بالمئة لصالح الإنضمام لروسيا، ما يدل على انقلاب في الرأي السياسي حتى وسط سكان القرم ذوات الأوصول الأوكرانية والذين يبدوا أنهم فضلوا حضن روسيا على البقاء في المستنقع الأكراني المأزوم، ما يشكل إحراجا قوياً لحكومة كييف الحالية والساعية لإستجلاب المزيد من الضغط الدولي على روسيا.
وهنا كانت الضربة القاسية على الطرف المناهض لروسيا في أوكرانيا وحليفيه الأوروبي والأمريكي، الذين حاولا بشتى الوسائل إعادة القرم لأوكرانيا، وذالك بالضغط السياسي والحصار الإقتصادي المحدود على روسيا، وإخراجها من اتحاد الدول الثمانية الذي أصبح نتيجة لذالك إتحاد الدول السبع. أما روسيا فيبدوا أنها مستعدة لتحمل أي نتائج سلبية للضغوطات الدولية حتي لو كلف الأمر حرب عسكرية حقيقية، مقابل عدم تعريض مصالحها في القرم للخطر وعدم خسارتها لما تعتبره أراضي سوفيتية مستعادة للحضن الروسي، الحالم باستعادة أمجاد الإتحاد القديم والثأر لخسائر الحرب الباردة.