الوقت - على الرغم من الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها المملكة مع انخفاض أسعار البترول التي وصلت إلى ما يُقارب الـ 60 دولاراً للبرميل، وإرهاصات العدوان العسكري على اليمن، ناهيك عن العلاقة المتأزمة مع قطر والأردن وفلسطين والجزائر وسوريا.. أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن أكبر ميزانية للمملكة العربية السعودية في تاريخها، الأمر الذي سيضع سياسة الأمير ليس فقط الإقتصادية، إنما السياسية والعسكرية أيضاً على المحك.
وعود خُلّبيّة
كما "عاصفة الحزم وإخضاعُ قطر" تبدو "ضخامة" الميزانية السعودية هي الأخرى وعداً خُلبيّاً أراد به الأمير الشاب إخضاع الشعب السعودي، وتعليقه بحبال الهواء، من خلال نشر وسائل الإعلام التي تعمل تحت إمرته أخباراً وتحليلات وتقارير تحدثت جميعها عن الفوائد الجمّة التي ستُحققها تلك الميزانية، غير أنّ أيّاً من تلك التقارير لم يتطرق إلى كيفيّة جمع الأموال الّلازمة لإنجاز كافة الأعمال الواردة في بنود الميزانية، خصوصاً أن عمليات إنتاج النفط بأسعاره المتدنيّة الحاليّة لن تكون كافية لتنفيذ تلك البنود.
محللون اقتصاديّون أكّدوا أنّ السعودية وعلى لسان وزرائها أكّدت تخفّيض الاعتماد على النفط في هذه الميزانية إلى 50%، فمن أين ستجد مالاً تُنجز به الكم الهائل من تلك المشاريع، والتي من المُرجح أن يبقى أغلبها حبراً على ورق، بحسب المحللين.
العدوان على اليمن هي الأخرى نالت حصّة الأسد من الميزانية المذكورة، والتي من المُرجح أن تكون الشمّاعة التي سيعلّق عليها بن سلمان فشل خطّته الإقتصادية، حيث فاقت ميزانية الإنفاق العسكري الـ 21 بالمائة من الميزانية العامة للسعودية.
تاريخٌ من الفشل
منذ بلوغ بن سلمان سُدّة ولاية العهد، وهو يقوم بتجهيز نفسه إمّا لانقلابٍ على والده شبيه بذلك الذي فعله مع عمّه، وإما الإنتظار "مجبراً" حتى موت والده واستلام عرش المملكة، وفي كلا الحالتين يرى بن سلمان أن جمع التأييد الشعبي له يعتبر من أبرز الخطوات للوصول إلى العرش، وما هذه الميزانية؛ إلّا محاولة منه لدغدغة مشاعر السعوديين الذين أنهكهم الواقع الاقتصادي المتردي الذي يعيشونه على الرغم من أن السعودية أكبر منتج للنفط في العالم.
وغير بعيدٍ عن موضوع الميزانية؛ يبقى فشل تجربة (2030) الإقتصادية التي أعلن عنها ابن سلمان ماثلةً أمام السعوديين، حيث أنها ومنذ انطلاقتها تعرضت لانكساراتٍ عدّة، اضطرت المسؤولين السعوديين إلى تغييرها عدّة مرات، وبالإضافة إلى ذلك التغيير؛ أعلنت الرياض أنّ خطتها للقضاء على عجز الميزانية والتي كانت مقررة في العام 2020، تمّ تأجيلها إلى العام 2023، الأمر الذي ردّه خبراء إقتصاديون إلى الصعوبات الإقتصادية التي تعاني منها المملكة.
أكثر من ذلك؛ يؤكد مراقبون أنّ الإعلان عن هذه الميزانية وفي هذا الوقت محاولةً من ابن سلمان للتغطية على الفشل الذريع في حربه على اليمن، وما خلّفته تلك الحرب من أزمة ثقة بيّنه وبين الشعب السعودي، حيث يحاول بن سلمان أن يؤكد على أنّ ضخامة الميزانية ستعود بالنفع على الشعب السعودي، غير أنّ الشواهد الموجودة تشير إلى حالٍ مختلف، فلا الحرب ستنتهي بنصر للسعودية، ولا الميزانية بإمكانها تغطية ذلك الفشل.
اقتصاد عاجز
باعتراف مسؤولي المملكة الاقتصاديين؛ فإنّ الموازنة لهذا العام ستحقق عجزاً يبلغ 195 مليار ريال سعودي أي ما قيمته 52 مليار دولار، ومع هذا الفارق الكبير بين الإيرادات والإنفاقات؛ سيبقى العجز الكبير في الميزانية يؤرق الإقتصاديين هناك ليخرجوا يوميّاً بإجراءات جديدة تهدف إلى خفض ذلك العجز، ومع تدني أسعار النفط؛ تصبح جيوب ليس فقط السعوديين الملجأ إلى سدِّ ذلك العجز؛ بل جيوب الوافدين أيضاً.
وبنظرةٍ شاملة يمكن معرفة الإجراءات التي ستتخذها السعودية في محاولة منها لسدِّ ذلك العجز، غير أنّها –أي الإجراءات- لم تُثبت نجاعتها في السنة المالية السابقة (2017) حيث شهد الإقتصاد السعودي حالة من الركود ناهيك عن اتساع الفجوة الطبقية بين الفقراء والأغنياء.
المملكة وبحسب مراقبين باتت اليوم مُجبرة على انتهاج ذات الإجراءات، ومنها رفع أسعار الوقود، حيث شهد العام المنصرم رفعها بنسبة 80% ومن المتوقع أن تواصل تلك الأسعار إرتفاعها حتى تصل إلى السعر العالمي! حيث يتناسى إقتصاديوا المملكة بأنّ مملكتهم تتفاخر بأنها أكبر منتج للنفط في العالم.
وبالإضافة لما سبق فإنّ السطو على جيوب الوافدين هي آخذة في الإزدياد، حيث تمّ رفع رسوم تجديد الإقامات التي سترتفع بواقع أربعة أضعاف بحلول 2020، ناهيك عن زيادة الرسوم على العمالة الوافدة في العام الجديد وذلك بمبلغ 100 ريال شهرياً (26.6 دولاراً) عن كل مرافق يرتفع حتى 400 ريال (106.7 دولارات) شهرياً بحلول عام 2020، وهو ما بدأت المملكة بتطبيقه منذ مطلع شهر يوليو/تموز الماضي، ناهيك عن زيادة الرسوم على الوافدين إلى المملكة؛ حيث تُشكل رسوم الخروج والعودة مصدراً مهمّا لرفد الخزينة السعودية، إذ تخطط المملكة تحصيل ما قيمته 24 مليار ريال (6.4 مليارات دولار) من رسوم الوافدين في موازنة العام 2018، غير أنّ كلّ تلك الأمول لم تُغيّر شيئاً من الواقع الصعب الذي يعيشه الإقتصاد السعودي.
وتسعى الحكومة السعودية أيضاً وبهدف سدِّ ذلك العجز إلى الإستدانة من المواطنين وذلك عبر طرح صكوك، في خطوة لجمع أكبر قدر من السيولة المالية التي ستوجه لتغطية جزء من عجز الموازنة العامة.
أكثر من ذلك.. وفي إجراء من شأنه إيغال صدور السعوديين ضد حكامهم؛ ما تعتزم المملكة فرضه على المواطنين من ضريبة للقيمة المضافة وذلك بداية من شهر يناير/كانون الثاني من العام 2018، وما سينجم عن تلك الضريبة حال تطبيقها من ارتفاع كبير في الأسعار.
وإذا كان آخر الطب الكي؛ فإنّ آخر إجراءات ولي العهد السعودي ستكون بزج المزيد من الأمراء ورجال المال بالسجون ومقايضتهم على حريتهم، حيث ما تزل قصة الأمير متعب نجل الملك الراحل عبد الله شاخصة أمام أعين الجميع؛ حيث اضطر الأمير متعب لدفع "فدية" مليار دولار مقابل حريته، ويؤكد خبراء أن السعودية التي كانت يوماً ما تمثل مناخاً جيداً للإستثمار؛ أصبح الإستثمار فيها اليوم مصدراً للخوف والقلق، خصوصاً مع بدء حبس رجال الأعمال العرب الذين كان آخرهم رجل الأعمال الأردني صبيح المصري، ومقايضته وهو الرجل الثمانيني على حريته.
خلاصة القول؛ سياسة الهروب إلى الأمام التي ينتهجها ولي العهد السعودي؛ أثبتت نجاعتها غير مرّة وفي مناسبات عدّة حول العالم، ولكن إلى حين، فمصير الوعود المطلقة إما التنفيذ؛ وإما الإجابة عن سؤال "لماذا لم تُنفذ"، هّنا سيضطر الأمير محمد بن سلمان إلى الجلوس أمام الشعب السعودي والإجابة، وإما اتباع سياسة الهروب إلى الأمام مرّةً أخرى؛ من خلال اختلاق أزمةٍ جديدة تقيه ذُلَّ الإجابة، وعلى هذا الأساس ربما بُنيت الميزانية السعودية "الأكبر على مر التاريخ".