الوقت- إن التطورات في الشرق الأوسط معقدة وسريعة وغير متوقعة. وإن مثل هذه الظروف تجعل الجهات الفاعلة غير قادرة على النظر في خطط واستراتيجيات طويلة الأجل، لكنها تسعى باستمرار لاتخاذ القرارات التي تتناسب مع الظروف الجديدة من خلال إتخاذ سياسات آنية.
وفي هذا الصدد، فإن تركيا، باعتبارها أحد أهم الجهات الفاعلة في المنطقة التي حاولت التأثير على سياق التطورات في الشرق الأوسط، كان لها النفوذ اللازم في علاقاتها الخارجية خلال العامين الماضيين أكثر من أي جهات فاعلة أخرى. وفي ذات السياق، يمكن الاشارة الى مواقف رجب طيب اردوغان، رئيس جمهورية تركيا، النادرة ضد حلفاء تركيا التقليديين في المنطقة خلال الأيام القليلة الماضية.
في 17 نوفمبر / تشرين الثاني، اتهم اردوغان أهم حلفائه، أي الولايات المتحدة بدعم تنظيم داعش الارهابي، وقال: " لقد أصابتنا الولايات المتحدة الامريكية بخيبة أمل كبيرة، وزعموا إنهم يقاتلون تنظيم داعش، ولكن ماذا فعلوا حقا؟ لقد قدموا ملايين الدولارات للتنظيم، ونحن لا نريد الانضمام إلى تحالفهم في أفريقيا، كما ان الولايات المتحدة تنتهك باستمرار الاتفاقيات".
وفي 11 كانون الاول / ديسمبر الماضي، وبعد اعلان ترامب عن قرار نقل سفارة بلاده الى القدس، وصف اردوغان اسرائيل بانها "نظام مُجرم ومُغتصب وقاتل للأطفال"، مؤكدا ان "فلسطين احتلت منذ عام 1947 وان اسرائيل هي كيان ارهابي وغاصب".
كما اتهم الرئيس التركي في 17 ديسمبر الماضي، حليف أنقرة السابق، أي المملكة العربية السعودية بمساهمتها في المشاركو بمؤامرة أجنبية ضد تركيا. وقال إن الأزمات في العراق واليمن والمنطقة الخليجية (قطر) كلها محاور لمشروع واحد، وبعض القوى تريد إعادة طرح الجغرافيا القديمة لتركيا ".
في الحقيقة، فإن ذكر الحرب اليمنية وأزمة العلاقات بين دول مجلس التعاون التي تترأسها السعودية، تعني إشراك السعودية مع الولايات المتحدة وإسرائيل في محاولة لزعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة.
الخلافات المتجذرة والسياسات غير المتناسقة
هناك مستويان من الخلاف حول الأسباب الكامنة وراء المواقف غير المسبوقة التي أبداها الرئيس التركي ضد حلفائه التقليديين في المنطقة على مدى العقود الماضية وظهور الخلافات بينهم، ففي المستوى الأولى، يُكمن الخلاف وراء تضارب المصالح الاستراتيجية بينهم، والمستوى الآخر هو المنافسة الموجودة في التطورات الإقليمية.
وفيما يتعلق بتضارب المصالح الاستراتيجية في ظهور التوترات الأخيرة بين تركيا وحلفائها القدامى، فإن القضايا الرئيسية تعود لوجهات النظر والسياسات المتضاربة لهذه البلدان تجاه التطورات في سوريا والعراق، وخاصة فيما يتعلق بالملف الكردي والمحاولات الانفصالية للأكراد فضلا عن الاختلافات الأيديولوجية بين أنظمتهم السياسية.
وفيما يتعلق بالتطورات في سوريا والعراق، فان تركيا التي تحوي على أقلية كبيرة نسبيا من الأكراد داخل حدودها، وانشغالها في مواجهة الجماعات الكردية الانفصالية والمسلحة والمتطرفة مثل حزب العمال الكردستاني الـ (ب ك ك)، الذي يُعتبر أهم تهديد أمني للأمن الوطني التركي على مدى العقود الماضية، فإنها تتخوف بشدة من تقسيم العراق وسوريا وإنشاء وحدات كردية مستقلة جنوب حدودها.
ولكن الولايات المتحدة وإسرائيل وحتى المملكة العربية السعودية (بشكل سري) اتبعت خلال السنوات الماضية سياسة تعزيز العلاقات العسكرية والمالية والسياسية مع الجماعات الكردية في هذه الدول، حيث ان في مسألة إجراء استفتاء الاستقلال من قبل حكومة إقليم كردستان العراق في الخامس والعشرين من شهر أكتوبر، كانت إسرائيل من المعدودين الذين أعلنوا بشكل علني عن دعمهم لإجراء هذا الاستفتاء ومحاولة البارزاني لتقسيم العراق.
كما كانت الولايات المتحدة في العامين الماضيين، إحدى العوامل الرئيسية في النجاحات العسكرية التي حققتها القوات الديمقراطية السورية المتمثلة بوحدات حماية الشعب الكردية التي تتعلق بحزب العمال الكردستاني، في السيطرة على الجزء الشمالي من البلاد، وذلك من خلال دعم امركيا لأكراد سوريا وتدريبهم وتمويلهم .
ومن ناحية أخرى، أدت الاختلافات الأيديولوجية الأخرى بين هذه الدول، بسبب التوجه الإسلامي لحزب العدالة والتنمية الكردي، ودعم حزب العدالة والتنمية للجماعات الإخوانية في المنطقة، والمعارضة القوية من الولايات المتحدة وإسرائيل والمملكة العربية السعودية لهذه الجماعة، إلى ظهور الخلافات والتوترات بينهم.
وعلى الرغم من هذه الاختلافات الاستراتيجية، فإن التنافس الإقليمي بين هذه الدول لتوسيع مجال نفوذهم، وخاصة المنافسة بين السعودية وتركيا للحصول على مكانة أعلى بين الدول الإسلامية، يساهم أيضا في تعميق الفجوة الحاصلة التي نشأت بينهما.
لذلك، وبعد أن أعلنت واشنطن عن قرار ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، استغلت تركيا الفرصة التي أتاحها التقاعس السعودي لحماية حقوق الفلسطينيين، ووجهت انتقادات حادة فيما يتعلق بقرار الحكومة الأمريكية والتجاوز الإسرائيلي على حقوق الفلسطينيين، وذلك كي تستغل الفرصة الذهبية الطارئة لتوسيع وجودها ونفوذها في المنطقة بالإضافة الى الضغط على الأطراف الأخرى.
تعميق الخلافات وتقليل مستوى العلاقات
إن انتقادات أردوغان للسياسات الأمريكية والإسرائيلية والسعودية التي اتهمتهم بإتحادهم لزعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة، لم تمُر بدون ردود أفعال، فعلى سبيل المثال، دعا وزير الحرب الصهيوني إلى إعادة النظر في العلاقات الاقتصادية لهذا الكيان مع أنقرة، وفي اشارة إلى معارضة أردوغان لنقل الغاز الفلسطيني إلى أوروبا عبر تركيا، قال " انه خطأ كبير واستراتيجي ان يتدخل اردوغان في قضية غازنا ". كما اعتبر الاعتذار من انقرة والموافقة على دفع تعويضات للقتلى في حادث الكوماندوز التي تسبب بها الكيان الصهيوني بقتل رُكاب سفينة تنقل مساعدات انسانية الى غزة، خطأ كبيرا بسبب طبيعة العلاقة المتوترة بينهما.
من جهة أخرى، تحدثت صحيفة عكاظ السعودية عن كشفها لوثائق سرية تتعلق بوجود تنسيق بين تركيا وقطر على أعلى المستويات من أجل خلق حالة من عدم الاستقرار في الدول العربية وخاصة في مصر. ومع ردود الأفعال هذه، من الممكن توقع تصعيد التوترات وتدهور مستوى العلاقات بين هذه البلدان.