الوقت- شهد تاريخ المملكة السعودية ثلاث مراحل أو ثلاث "دول" كما يروق للمؤرخين أن يسمونها، ويعود تاريخ المملكة الحافل بالنزاعات وإراقة الدماء بين الأخوة وأبناء العمومة إلى العام 1744م وهو التاريخ الذي أسس فيه محمد بن سعود آل مقرن "الدولة السعودية الأولى"، وقرن آل مقرن دولته الأولى برجال الدين عبر "ميثاق الدرعية"، هذا الميثاق الذي أسس لعلاقة تاريخية بين السلطتين الدينية والسياسية وزواج تاريخي كانت الكلمة الأولى والأخيرة فيه للسلطة السياسية التي طوعت رجال الدين لخدمة مصالحها، واستمرت هذه العلاقة الحميمية في الدولتين الثانية والثلاثة، إلا أن الملك المنتظر قد يغير موازين اللعب ويعمل على تهميش رجال الدين أكثر من آباءه وأجداده، مبشرا بدخول المملكة مرحلة رابعة أو "دولة رابعة" لاتزال غامضة المعالم.
الشراكة السياسية- الدينية في السعودية بدأت مع "محمد بن عبد الوهاب" رجل الدين الأصولي وزعيم الوهابية الذي جعل الدين رهن سلاطين وملوك المملكة، وبدأ عبد الوهاب إطلاق الفتاوى يمينا ويسارا بما يتناسب مع مصلحة الملك محمد بن سعود حينها، مقابل أن يؤمن الأخير له الحماية، وكانت أول فتوى لـ عبد الوهاب "الجهاد في شبه الجزيرة العربية"وبموجبها نجحت قوات بن سعود في السيطرة على مكة، وهكذا استمرت العلاقة بينهما وبموجب هذه العلاقة تم تثبيت قلاع وقصور آل سعود وحكمهم في رمال الصحراء، وبالبطبع على حساب سكان الجزيرة العربية الذين أريقت دمائهم في كل مكان، ومن هنا بدأ عهد التطرف في المملكة ليفيض عنها فيما بعد وينتشر في البلاد المجاورة إلى أن وصل مع بداية الألفية الثالثة إلى بلاد العم سام، بحسب ادّعاء الأخير.
ولتدعيم السلطة الدينية وجعلها في خدمة السلطة السياسية أكثر وأكثر، أصدر الملك عبد العزيز آل سعود في العام 1953 قرارا عُين بموجبه الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتيا عاما للمملكة، ليكون أول مفتي في تاريخ المملكة، وبعد هذا التاريخ لم تتوانى المملكة ولا لحظة عن استرضاء المؤسسة الدينية خلال العقود الماضية؛ وزاد الإهتمام بالمؤسسة الدينية منذ حادثة حصار مكة من قبل مسلحين محسوبين على التيار الديني عام 1979 بزعامة "جيهمان العتيبي" الذي أعدم فيما بعد، وخوفا من تكرار الحادثة اقترب النظام الحاكم من السلطة الدينية أكثر وأكثر، والأغرب أنهم حولوا منهج العتيبي إلى دستور حاكم للبلاد لعدة عقود.
ورغم كل الدعم الذي قدمه رجال الدين للحكومات المتعاقبة والحرص الدائم على الحؤول دون حدوث أي تغيير سياسي، لم يتمكن هؤلاء المشايخ من منع حدوث حروب داخلية ونزاعات وانقلابات داخل البلاط الملكي، وعلى سبيل المثال فشلت الفتاوى الدينية في حقبة 1891 في منع سقوط الدولة السعودية الثانية على يد آل رشيد حكام إمارة جبل شمر. فهل سيتكرر هذا الفشل مع الدولة السعودية الثالثة؟!.
انهيار الدول الثالثة
"سيد الحداثة" ولي العهد الجديد يطل على مملكته بدمائه الشابة المندفعة والمتحمسة لإحداث تغيير وانقلاب ناعم على عادات مملكته وتقاليدها التي حكمت بموجبها المملكة لعقود طويلة محدثا بلبلة في بلد يعاني أساسا من مجموعة التحديات الاقتصادية والسياسية التي تنعكس بشكل مباشر على حياة المواطنين اليومية وتزيد حالة التقشف يوما بعد يوم، فضلا عن تورط المملكة في حروب لم تجلب لها سوى الأفول الاقتصادي والسياسي، وما يفعله الأمير الشاب محمد بن سلمان اليوم من حملات اعتقال ممنهجة لرجال الدين والإعلام وإعطاء المرأة بعض الحريات كـ "قيادة السيارة"، ليست سوى محاولات يريد منها بن سلمان استعراض قدراته وإخافة أبناء عمومته وإحداث ضجة سياسية وعالمية لإخفاء الواقع الحقيقي لما تمر به السعودية، ومع ذلك قد يدخل بن سلمان بلاده في حقبة رابعة، لا نعتقد أنها ستختلف عن سابقاتها سوى من ناحية الشكل أما المضمون ستبدأ معالمه بالظهور مع تنصيبه ملكا للبلاد.
ونتيجة لعدم امتلاك بن سلمان الخبرة السياسية الكافية مثل البعض من أسلافه، نجده يفضح حقيقة المملكة وتاريخها المتطرف، وأطلق بن سلمان أول اعترافاته بالتاريخ المتطرف للملكة في مقابلة أجراها مؤخرا مع صحيفة "الغارديان" البريطانية تعهد فيها بإعادة البلاد إلى ما أسماه "الإسلام المعتدل" ومواجهة الأفكار المتطرفة، مشيراً إلى أن السعودية لم تكن طبيعية على مدى الثلاثين عاماً الماضية، بسبب التعاليم الجامدة والمتزمتة التي سيطرت على المجتمع"، وهذا بحد ذاته اعتراف واضح من ولي العهد السعودي بأن بلاده كانت متطرفة خلال العقود الماضية.
كيف لا تكون متطرفة وقد كشفت آخر إحصائية رسمية عن أن السعودية تأتي في المرتبة الثانية من حيث أعداد العناصر الأجنبية التي انضمت إلى داعش ووصل عدد السعوديين في صفوف التنظيم إلى 3244 شخص، فضلا عن دور المملكة في تشكيل الجماعات الإرهابية وقدمت لها الدعم المالي والعسكري بهدف زعزعة الأمن والاستقرار ونشر الفوضى في عموم المنطقة والعالم، أما في الداخل السعودي فقد مارست المملكة تطرفها على رجال الدين المعتدلين والدعاة والكتاب حيث يقبع عدد كبير من هؤلاء في السجون السعودية، الأمر الذي لا يجعل أي مراقب للوضع العام في المملكة يأخذ تصريحات بن سلمان الأخيرة على محمل الجد، أو يستبشر بها خيرا.
في الخلاصة، الانقلاب الذي يعمل عليه اليوم بن سلمان لن يغير الكثير من سياسة المملكة في الداخل والخارج، صحيح أنه يحاول أن يظهر أنه لن يواصل طريق أعمامه ووالده في التقرب للشيوخ، لكن حقيقة الأمر أن ما يفعله الأمير الشاب ليس سوى بروباغندا إعلامية تساعده على اقتناص أكبر قدر ممكن من السلطة، وإدخال الرعب في نفوس بقية المشايخ حتى يتمكن من تحقيق طموحاته الشابة المستبدة، ليدخل بلاده في دولة رابعة لن تقل تطرفا عن سابقاتها في أغلب الظن.